ورد عن الصدّيقة الزهراء (عليها السلام): ((يا بن أبي طالب، اشتملتَ شملة الجنين، وقعدتَ حجرة الظنين، نقضتَ قادمة الأجدل، فخانك ريش الأعزل، هذا ابن أبي فلان يبتزّني نُحَيْلَة أبي وبُلْغَة اِبْنَيَّ، لقد أجهد في خصامي، وألفيته ألد في كلامي، حتى حبستني قيلة نصرها، والمهاجرة وصلها، وغضّت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع ولا مانع))[1].
من المواقف الملفتة بعد شهادة النبي (صلى الله عليه وآله): قعود أمير المؤمنين (عليه السلام) عن المطالبة بحقه وقيامُ الصديقة الزهراء (عليها السلام)، وهما معصومان متعاصران، ومع ذلك قعد أحدهما وقام الآخر، وقد تمثّل قيام الصديقة الطاهرة (عليها السلام) في عدّة مواقف:
ومن خلال هذه المواقف يتضح أنَّ الزهراء (عليها السلام) بعد شهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان موقفها موقفَ القيام، فهي لم تقعد ولم تسكت، بل قامت وقاومت وواجهت وجاهدت وجابهت ولم تدخر وسعًا في القيام إلا وبذلته.
ومن هنا ينبعث سؤالان:
وبعبارة أوضح: كان بإمكان الزهراء (عليها السلام) في البداية أن تخلّيَ بين القوم وبين أمير المؤمنين (عليه السلام) من غير أن تعرِّض حجابها للهتك، ومن غير أن تعرِّض نفسها للأذى الجسدي، ثم بعد ذلك تبدأ بالاحتجاج والخطب والمواجهة.
والحال أنها (عليها السلام) لم تدّخر حتى القيام الجسدي، بل قدّمت نفسها في سبيل أمير المؤمنين (عليه السلام) رغمَ ما تعرّضت له من صنوف الإيذاء، فلماذا لم تقتصر على مستوى من مستويات القيام -وهو القيام الكلامي والاحتجاجي- وتجاوزته إلى القيام الجسدي والمواجهة المباشرة؟
إنَّ الجواب في المقام رهن بيان أمور ثلاثة:
إنَّ القيام بعد شهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان أمرًا لا بدَّ من وقوعه؛ إذ أنَّ فرز الأوراق وقتذاك موقوفٌ على تحقّقه، بمعنى أنه لو لم يتحقق قيامٌ بعد شهادة النبي (صلى الله عليه وآله) لاختلطت الأوراق وساد المسلمين صوتٌ واحدٌ فقط، فكان لا بدَّ من حركة قيامٍ من خلالها يتمُّ فرز الأوراق وإيضاح أنَّ هنالك خطين، أحدهما يمثّل الحق والآخر يمثّل الضلال.
إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن بوسعه القيام، بل كان متعذّرًا عليه، وذلك لعدة أسبابٍ، نذكر منها واحدًا، وهو إرادة الإمام (عليه السلام) لقطع الطريق وسد الباب أمام المتربّصين بالإسلام، خصوصًا وأنَّ الإسلام وقتها كان غضًّا طريًا حديث الولادة، وكان أعداء الإسلام يتحيّنون الفرصة من أجل القضاء عليه في مهده، فلو نشأت حربٌ داخليةٌ في مثل هذا الوقت لكانت بمثابة تقديم طبق من ذهب لأعداء الإسلام كي يثبوا على المسلمين ويذبحوا الإسلام في مهده.
وقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) صاحب نظرة ثاقبة وقراءة دقيقة للأوضاع والظروف، ومن الشواهد على ذلك: أنَّ أبا سفيان -بعد أن حُسِمَت الأمور بعد شهادة النبي (صلى الله عليه وآله)- قد أقبل إلى باب بيت النبي (صلى الله عليه وآله) حيث كان أمير المؤمنين (عليه السلام) والعباس هناك، فقال: يا بني عبد مناف، أرضيتم أن يولّى عليكم؟! والله لو شئتم لأملأنها عليهم خيلًا ورجالًا. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): والله ما أردت الله بقولك هذا وما زلت تكيد الإسلام وأهله[2].
وهكذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقرأ الساحة بدقة ويراقب الظروف بحذر، وكان متيقّظًا إلى أنَّ المتربصين بالإسلام كانوا يتحيّزون الفرصة، وأنَّه لو تحرَّك لنشبت حربٌ طائفيةٌ ضحيّتها الكبرى هي الإسلام.
إنَّ الصديّقة الزهراء (عليها السلام) كان يسعها القيام، وكان الهدف -وهو فرز الأوراق- يتحقّق من خلال قيامها، والسؤال المهمّ الذي يطرحه نفسه هنا: أي فرق كان بين الزهراء وأمير المؤمنين (عليهما السلام)، بحيث كان يسعها القيام بينما لم يكن يسعه ذلك؟
والجواب عن ذلك: إنَّ الفرق بينهما هو أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان رجلًا بينما الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) كانت امرأة، ولا يخفى أنَّ قيام الرجل يجرُّ إلى المواجهة المسلّحة والحرب الداخلية، بخلاف قيام المرأة، فلو قام أمير المؤمنين (عليه السلام) لنشبت الحرب الداخلية لكونه رجلًا، بخلاف ما لو قامت الزهراء (عليها السلام) لكونها امرأة.
ولذلك قامت الزهراء (عليها السلام) وواجهت وجابهت، وفرزت الأوراق، وبيّنت أنَّ الحق لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنَّ غيره قد تجاوزوا عليه، وبهذا صارت فيصلًا بين الحق والباطل، ولولا ما قامت به (عليها السلام) لانطمست أعلام الحق والتقى.
والسؤال الذي نحن بصدد الإجابة عنه هنا هو: لماذا قامت الزهراء (عليها السلام) بكل مستويات القيام؟ ألم يكن يكفيها أن تحتج وتخطب من دون أن تعرّض نفسها للأذى والقتل؟ ومن غير أن تعرّض حجابها للهتك؟ فلمّا جاء الأعداء كان بإمكانها أن تُخلّي بينهم وبين أمير المؤمنين (عليه السلام) فيدخلون ويأخذون أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم تقوم هي بعد ذلك بدورها في الاحتجاج والمواجهة، إلّا أنَّها قد أصرّت على صدّهم ومجابهتهم رغم علمها بأنَّ ذلك يعرّض حجابَها للهتك وجسدَها لمختلف أنواع الإيذاء، فلماذا أصرّت على بذل حتى هذا المستوى من القيام والمواجهة؟
وفي مقام الإجابة لا بدَّ من بيان أمرين:
إنَّ الإمامة من الأصول، بينما حفظ النفس والحجاب من الفروع، فحفظ الإمام والإمامة أهم من حفظ النفس والحجاب، وفي مورد التزاحم بينهما توجد قاعدةٌ عقلائيةٌ أمضاها الشارع، وهي: لو دار الأمر بين حفظ الأهم وحفظ المهم فإنَّ المقدّم هو حفظ الأهم.
فمثلًا: لو رأيتَ شخصًا يوشك على الغرق، ولم يكن بإمكانك إنقاذه إلا إذا تجاوزت أرضًا لغيرك مع تعذّر الاستئذان، فهنا الاستئذان مهمٌّ، لكن إنقاذ الغريق أهمّ، وإذا دار الأمر بينهما يقدَّم الأهم على المهم، فتقوم بإنقاذ الغريق وإن لزم من ذلك دخول أرضٍ من غير استئذان صاحبها.
وكذلك الحال في المقام، فإنَّ الإمامة من الأصول، بينما حفظ النفس والحجاب من الفروع، فإذا دار الأمر بين حفظ أحدهما وحفظ الآخر فإنَّ المقدَّم هو حفظ الإمامة.
إنَّ الدفاع عن الإمام غير محكوم بأحكام الجهاد، إذ للجهاد في الشريعة المقدّسة أحكامٌ وحدودٌ معيّنة، من قبيل: أنه يجب على الرجال ولا يجب على النساء، فالمرأة غير مخاطبة بالجهاد، كما أنَّ وجوب الجهاد إنَّما هو على الكبار دون الصغار، فالذي لم يبلغ الحلم لا جهاد عليه.
لكن هذه الأحكام لا تحكم مسألة الدفاع عن الإمام (عليه السلام)، فالدفاع عن الإمام كما يجب على الرجل يجب على المرأة، وكما يجب على الكبار يجب على الصغار، ومن هنا نفهم بعض ما جرى في كربلاء، فإنه كما جاهد الكبار جاهد الصغار، كالقاسم بن الحسن (عليه السلام)، فإنَّه جاهد وهو لم يبلغ الحلم، وكذلك جاهدت بعض النساء كأم وهب، ومع ذلك فإنَّ سيد الشهداء (عليه السلام) لم يمنعهم من الخروج من جهة أنَّ الجهاد ليس واجبًا عليهم.
وبالالتفات إلى هذين الأمرين المتقدّمين، نفهم لماذا لم تدّخر الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) وسعًا في دفاعها عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنَّها لم يكن يسعها التخلية بين القوم وأمير المؤمنين (عليه السلام) ثم الاكتفاء بالقيام الكلامي الخطابي؛ لأنَّ الإمام (عليه السلام) كان في معرض التصفية حينها، فكانت وظيفة الزهراء (عليها السلام) أن تدفع عنه، ولذلك بذلت نفسها في سبيل ذلك، فكُسِر ضلعها، وأُصيب صدرها، وأُسقط جنينها، ووُرِّم متنها، ومع ذلك لم تتراجع، بل قامت وجابهت وتصدّت دفاعًا عن إمام زمانها.
[1] بحار الأنوار: ج29، ص234.
[2] الإرشاد للشيخ المفيد: ج1، ص190.