إعلم إن للإنسان وجهتين : وجهة إلى عالم الأمر ووجهة إلى عالم الخلق ، وهما متغايرتان تمام المغايرة .
فعالم الأمر آني وعالم الخلق تدريجي ، وعالم الأمر لا مادة فيه ولا مدة ، وعالم الخلق لا يكون بدونهما ، وعالم الخلق عالم الجسمانيات وعالم الأمر ليس كذلك . أي أن لكل إنسان روحا وبدنا ، والروح من عالم الأمر والبدن من عالم الخلق ، والأول من عالم الطهارة والثاني من عالم التراب ، والترابي مركب ومحسوس ، وما كان من عالم الطهارة لا مركب ولا محسوس ، والترابي ظلماني والثاني نوراني ، والأول معروف والثاني لا يمكن معرفته ، والأول فاني والثاني باقي .
وعلى أية حال ، فلكل حرف ظرف ولكل روح قالب .
وفي الكافي وغيره روايات معتبرة تقول : إن أرواح الأنبياء والأئمة الأبرار من عباد الله تختلف تمام الاختلاف عن الآخرين من الرعايا بنورانيتها وطهارتها ، وهي خارجة عن حدنا ووصفنا نحن الجهلة ، وكيف نعرف حقيقة أرواحهم ونحن عاجزون عن معرفة حقيقة أرواحنا مع أن روح القدس روح من أرواحهم ؟ ! وفي الحديث الصحيح أن أرواح أئمة الهدى خلقت من فوق العرش وأبدانهم خلقت من العرش .
وفي كتاب بصائر الدرجات عن الصادق ( عليه السلام ) : خلقنا من عليين وخلق أرواحنا من فوق ذلك ، وخلق أرواح شيعتنا من عليين ، وخلق أجسادهم من دون ذلك ، فمن أجل تلك القرابة بيننا وبينهم قلوبهم تحن إلينا .
وفيه عنه ( عليه السلام ) : « خلقنا الله من نور عظمته ، ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش ، فأسكن ذلك النور فيه ، فكنا نحن خلقنا نورانيين لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيبا ، وخلق أرواح شيعتنا من أبداننا ، وأبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة ، ولم يجعل الله لأحد في مثل ذلك الذي خلقهم منه نصيبا إلا الأنبياء والمرسلين ، فلذلك حدنا نحن وهم الناس ، وصار سائر الناس همجا في النار وإلى النار » .
والخلاصة : إن من نظر في أخبار الطينة وما يتعلق بعليين وسجين والأبرار والفجار ، علم أن الأرواح المقدسة والأبدان المطهرة للأنبياء والمعصومين والأئمة الطاهرين تختلف تماما عن غيرهم ، وأن قوالبهم الجسمانية أسفل من نورهم ، وأن أرواحهم أعلى من عالي الجسمانيات ، وأبدانهم أفضل وأعلى من كل الأبدان .
فبدن الإمام من عالم الملك والخلق والجسمانيات ، وهو بخلاف عالم الأمر والنور ، حيث يحتاج إلى مادة ويتطلب طينة أصلية ، ويحكم بالتدرج ، مثله مثل الحبة التي تزرع في التراب فتبلغ القدر المقدور بمرور الأيام والأعوام والدهور ، فتشق الأرض وتنتشر إلى داخل التربة جذرا ، وإلى فوقها ساقا وجذعا ، ثم تتفرع منها الغصون والأوراق وتزهر ثم تثمر ، كما هو الحال في خلقة الإنسان حيث يتدرج من رتبة إلى رتبة ، وينقل من صورة إلى صورة ومن شكل إلى شكل ، من نطفة وعلقة ومضغة ، ثم تكتمل الصورة فينبت العظم ويكسى اللحم وتلجه الروح من عالم الأمر ، ويخرج في الوقت المعلوم من مشيمة الرحم إلى هذا العالم .
فلا بد أن نقول بوجود الطينة الأصلية لتلك الأجساد الملكية والأبدان السماوية ، ونستشهد لذلك بما ورد عنهم ، وأغلب ما ورد عنهم تجده في الكافي وبصائر الدرجات ومنها ما في البصائر – وسننقل موضع الحاجة – : أنزل الله قطرة من ماء تحت العرش إلى الأرض فيلقيها على ثمرة أو على بقلة فيأكل الإمام ( عليه السلام ) تلك الثمرة أو تلك البقلة ويخلق الله منه نطفة الإمام الذي يقوم من بعده قال : فيخلق الله من تلك القطرة نطفة في الصلب ، ثم يصير إلى الرحم فيمكث فيها أربعين ليلة . . . إلى آخر الحديث .
أيضا : إذا أراد أن يحبل بإمام ، أوتي بسبع ورقات من الجنة فأكلهن قبل أن يقع فإذا وقع في الرحم سمالع الكلام في بطن أمه . . الخ .
وأيضا في البصائر قال : إنه لما كان في الليلة التي علق بجدي فيها أتى آت جد أبي وهو راقد ، فأتاه بكأس فيها شربة أرق من الماء ، وأبيض من اللبن ، وألين من الزبد ، وأحلى من الشهد ، وأبرد من الثلج فسقاه إياه وأمره بالجماع ، فقام فرحا مسرورا . . الخ والأخبار في انعقاد نطفة الأئمة الأطهار متواترة ، ولا يجوز إنكارها مع صحة أسانيدها ورواتها .
والآن نعود إلى المقصود في بيان نطفة الطاهرة الزكية المطهرة أم الأئمه البررة فاطمة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين : فهل هي قطرة ماء من تحت العرش ؟ أو شربة شربها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) من أعالي الجنان ؟ أو فاكهة تناولها من فاكهة الجنة ؟ وفي البحار ستة أمور تصلح للجواب :
الأول : روي بطريق معتبر أن نطفتها الطاهرة خلقت من تفاح الجنة ، وهذه الأخبار تنقسم إلى طائفتين :
الطائفة الأولى : الأحاديث التي تفيد أن النبي أكل التفاحة في السماء ، كما في حديث المعراج المروي في علل الشرائع للصدوق ( رحمه الله ) .
الطائفة الثانية : الأحاديث التي تفيد أن جبرئيل هبط على النبي وأهدى إليه تفاحة فأكلها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو في الأرض ، كما في معاني الأخبار والعلل – وننقلها تيمنا وتبركا – : عن سدير الصيرفي ، عن أبي عبد الله ، عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : خلق نور فاطمة ( عليها السلام ) قبل أن يخلق الأرض والسماء .
فقال بعض الناس : يا نبي الله ! فليست هي إنسية ؟ فقال : فاطمة حوراء إنسية .
قالوا : يا نبي الله ! وكيف هي حوراء إنسية ؟ قال : خلقها الله – عز وجل – من نوره قبل أن يخلق آدم إذ كانت الأرواح ، فلما خلق الله عز وجل آدم عرضت على آدم .
قيل : يا نبي الله ! وأين كانت فاطمة ؟ قال : كانت في حقة تحت ساق العرش .
قالوا : يا نبي الله فما كان طعامها ؟ قال : التسبيح والتقديس والتهليل والتحميد ، فلما خلق الله عز وجل آدم وأخرجني من صلبه وأحب الله – عز وجل – أن يخرجها من صلبي ، جعلها تفاحة في الجنة وأتاني بها جبرائيل ( عليه السلام ) فقال لي : السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا محمد ! قلت : وعليك السلام ورحمة الله حبيبي جبرئيل .
فقال : يا محمد ! إن ربك يقرئك السلام .
قلت : منه السلام وإليه يعود السلام .
قال : يا محمد ! إن هذه تفاحة أهداها الله عز وجل إليك من الجنة ، فأخذتها وضممتها إلى صدري .
قال : يا محمد ! يقول الله جل جلاله : كلها ، ففلقتها فرأيت نورا ساطعا وفزعت منه . فقال : يا محمد ! مالك لا تأكل ؟ كلها ولا تخف ، فإن ذلك النور للمنصورة في السماء وهي في الأرض فاطمة .
قلت : حبيبي جبرئيل ولم سميت في السماء المنصورة وفي الأرض فاطمة ؟ قال : سميت في الأرض فاطمة لأنها فطمت شيعتها من النار وفطم أعداؤها عن حبها ، وهي في السماء المنصورة ; وذلك قول الله عز وجل ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء ) يعني نصر فاطمة لمحبيها .
وفي هذا المضمون رواية أخرى في العلل عن جابر بن عبد الله عن الباقر ( عليه السلام ) ; قال : « قيل : يا رسول الله ! إنك تلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك ؟ فقال : إن جبرئيل ( عليه السلام ) أتاني بتفاحة من تفاح الجنة فأكلتها فتحولت ماء في صلبي ، ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة ، فأنا أشم منها رائحة الجنة » .
الثاني : في البحار عن تفسير فرات بن إبراهيم معنعنا عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : معاشر الناس ! تدرون لما خلقت فاطمة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : خلقت فاطمة حوراء إنسية لا إنسية .
وقال : خلقت من عرق جبرئيل ومن زغبه . قالوا : يا رسول الله ! استشكل ذلك علينا ، تقول : حوراء إنسية لا إنسية ثم تقول : من عرق جبرئيل ومن زغبه ؟ قال : إذا أونبئكم : أهدى إلي ربي تفاحة من الجنة أتاني بها جبرئيل ( عليه السلام ) ، فضمها إلى صدره ، فعرق جبرئيل ( عليه السلام ) وعرقت التفاحة ، فصار عرقهما شيئا واحدا ثم قال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته . قلت : وعليك السلام يا جبرئيل .
فقال : إن الله أهدى إليك تفاحة من الجنة ، فأخذتها وقبلتها ووضعتها على عيني وضممتها إلى صدري ، ثم قال : يا محمد ! كلها .
قلت : يا حبيبي يا جبرئيل ! هدية ربي تؤكل ؟ قال : نعم قد أمرت بأكلها ، فأفلقتها فرأيت منها نورا ساطعا ففزعت من ذلك النور ; قال : كل فإن ذلك نور المنصورة فاطمة .
قلت : يا جبرئيل ! ومن المنصورة ؟ قال : جارية تخرج من صلبك ، واسمها في السماء المنصورة وفي الأرض فاطمة . . . إلى آخر الحديث .
قال العلامة المجلسي ( رحمه الله ) : الزغب : الشعيرات الصغرى على ريش الفرخ وكونها من زغب جبرئيل ، إما لكون التفاحة فيها وعرقت من بينها ، أو لأنه التصق بها بعض ذلك الزغب فأكله النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
الثالث : في البحار عن تفسير علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله و ) يكثر تقبيل فاطمة ( عليها السلام ) فأنكرت ذلك عائشة . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عائشة ! إني لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها ، فأكلته فحول الله ذلك ماء في ظهري ، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها » .
ولم يحدد في هذا الحديث ما هي شجرة طوبى ؟
الرابع : في علل الشرائع عن ابن عباس قال : دخلت عائشة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يقبل فاطمة فقالت له : أتحبها يا رسول الله ؟ قال : « أما والله لو علمت حبي لها لازددت لها حبا ; إنه لما عرج بي إلى السماء الرابعة أذن جبرئيل وأقام ميكائيل ثم قيل لي : أدن يا محمد ! فقلت : أتقدم وأنت بحضرتي يا جبرئيل ؟ قال : نعم إن الله عز وجل فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين ، وفضلك أنت خاصة ، فدنوت فصليت بأهل السماء الرابعة ، ثم التفت عن يميني فإذا أنا بإبراهيم ( عليه السلام ) في روضة من رياض الجنة وقد اكتنفها جماعة من الملائكة .
ثم إني صرت إلى السماء الخامسة ومنها إلى السادسة ، فنوديت : يا محمد ! نعم الأب أبوك إبراهيم ، ونعم الأخ أخوك علي ، فلما صرت إلى الحجب أخذ جبرئيل ( عليه السلام ) بيدي فأدخلني الجنة ، فإذا أنا بشجرة من نور في أصلها ملكان يطويان الحلل والحلي ، فقلت : حبيبي جبرئيل لمن هذه الشجرة ؟ فقال : هذه لأخيك علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وهذا الملكان يطويان له الحلي والحلل إلى يوم القيامة .
ثم تقدمت أمامي ، فإذا أنا برطب ألين من الزبد وأطيب رائحة من المسك وأحلى من العسل ، فأخذت رطبة فأكلتها ، فتحولت الرطبة نطفة في صلبي ، فلما أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة ، ففاطمة حوراء إنسية ، فإذا اشتقت إلى الجنة شممت رائحة فاطمة ( عليها السلام ) » .
وروى بهذا المضمون في الأمالي والعيون مختصرا .
وفي كتاب فضائل السادات عن الفصل الخامس من مناقب الخوارزمي في فضائل فاطمة عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لما أن مات ولدي من خديجة ، أوحى الله إلي أن أمسك عن خديجة ، وكنت لها عاشقا ، فسألت ألله أن يجمع بيني وبينها ، فأتاني جبرئيل في شهر رمضان ليلة جمعة لأربع وعشرين ومعه طبق من رطب الجنة فقال لي : يا محمد ! كل هذا وواقع خديجة الليلة ، ففعلت فحملت بفاطمة ، فما لثمت فاطمة إلا وجدت ريح ذلك الرطب ، وهو في عترتها إلى يوم القيامة .
وهذه منقبة عظيمة لفاطمة الطاهرة وذريتها المطهرة .
وفي الحديث تعيين ليلة انعقاد نطفتها ، وهي ليلة أربع وعشرين من شهر رمضان ، ولهذه الليلة شرف عظيم ، وعليه تكون ولادتها في جمادي الآخرة ، ولم أجد هذه الإشارة في حديث آخر .
الخامس : في عيون المعجزات عن حارثة بن قدامة عن سلمان عن عمار في حديث يأتي في باب علم فاطمة ، وننقل الآن منه موضع الحاجة : قالت فاطمة : إعلم يا أبا الحسن أن الله تعالى خلق نوري وكان يسبح الله جل جلاله ، ثم أودعه شجرة من شجر الجنة فأضاءت ، فلما دخل أبي الجنة أوحى الله تعالى إليه إلهاما ، أن اقتطف الثمرة من تلك الشجرة وأدرها في لهواتك ، ففعل فأودعني الله سبحانه صلب أبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم أودعني خديجة بنت خويلد فوضعتني ، وأنا من ذلك النور ، أعلم ما كان وما يكون وما لم يكن . يا أبا الحسن ! المؤمن ينظر بنور الله تعالى .
وليس في الحديث الشريف ذكر لثمرة أو شجرة معينة كما أن حديث شجرة طوبى لم يعين الثمرة .
السادس : حديث الرطب والعنب : روى المرحوم المجلسي – غفر الله له وأعطاه ما ناله – في المجلد السادس من بحار الأنوار مرسلا ، وفي كتاب حياة القلوب ، وهو حديث شريف ذو أسرار ، أنقله بعينه ليؤجر عليه القارئ المحب ويثاب : روي : بينا النبي ( صلى الله عليه وآله ) جالس بالأبطح ومعه عمار بن ياسر والمنذر بن الضحضاح وأبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وحمزة بن عبد المطلب ، إذ هبط عليه جبرئيل ( عليه السلام ) في صورته العظمى قد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق إلى المغرب ، فناداه : يا محمد ! العلي الأعلى يقرأ عليك السلام وهو يأمرك أن تعتزل عن خديجة أربعين صباحا ، فشق ذلك على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان لها محبا وبها وامقا .
قال : فأقام النبي ( صلى الله عليه وآله ) أربعين يوما يصوم النهار ويقوم الليل ، حتى إذا كان في آخر أيامه تلك بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وقال : قل لها : يا خديجة ! لا تظني أن إنقطاعي عنك هجرة ولا قلى ، ولكن ربي عز وجل أمرني بذلك لتنفذ أمره ، فلا تظني يا خديجة إلا خيرا فإن الله عز وجل ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا ، فإذا جنك الليل فأجيفي الباب وخذي مضجعك من فراشك ، فإني في منزل فاطمة بنت أسد ، فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مرارا لفقد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد ! العلي الأعلى يقرئك السلام وهو يأمرك أن تتأهب لتحيته وتحفته .
قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : يا جبرئيل ! وما تحفة رب العالمين ؟ وما تحيته ؟ قال : لا علم لي .
قال : فبينا النبي ( صلى الله عليه وآله ) كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس ، أو قال : استبرق ، فوضعه بين يدي النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأقبل جبرئيل ( عليه السلام ) وقال : يا محمد ! يأمرك ربك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام .
فقال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمن يرد إلى الإفطار ، فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي ( صلى الله عليه وآله ) على باب المنزل وقال : يابن أبي طالب ، إنه طعام محرم إلا علي .
قال علي ( عليه السلام ) : فجلست على الباب وخلا النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالطعام وكشف الطبق ، فإذا عذق من رطب وعنقود من عنب ، فأكل النبي ( صلى الله عليه وآله ) منه شبعا ، وشرب من الماء ريا ، ومد يده للغسل فأفاض الماء عليه جبرئيل وغسل يده ميكائيل وتمندله إسرافيل ، وارتفع فاضل الطعام مع الإناء إلى السماء ، ثم قام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليصلي فأقبل عليه جبرئيل وقال : الصلاة محرمة عليك في وقتك حتى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها ، فإن الله عز وجل آلى على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرية طيبة ، فوثب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى منزل خديجة .
قالت خديجة رضوان الله عليها : وكنت قد ألفت الوحدة ، فكان إذا جنني الليل غطيت رأسي ، وأسجفت ستري ، وغلقت بابي ، وصليت وردي ، وأطفأت مصباحي ، وآويت إلى فراشي ، فلما كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمنتبهة ، إذ جاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقرع الباب ، فناديت : من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قالت خديجة : فنادى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه : إفتحي يا خديجة فإني محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
قالت خديجة : فقمت فرحة مستبشرة بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) وفتحت الباب ودخل النبي ( صلى الله عليه وآله ) المنزل ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه ، فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة ، غير أنه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها ، فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما تباعد عني النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى حسست بثقل فاطمة في بطني .
إنظر ما أعذب كلامها وأحلى منطقها وأرق عاطفها ومحبتها سيما في العبارة الأخيرة من قولها « إنه أخذ بعضدي . . . » .
بيان لأهل البيان بين ( عليه السلام ) أن النطفة الطاهرة للمخدرة الكبرى خلقت من تفاح الجنة ، ومن تفاحها المتعرق الممزوج بعرق جبرئيل وزغبه ، ومن رطب الجنة ، ومن ثمار الجنة ، ومن ثمار شجرة طوبى ، ومن الرطب والعنب والماء الذي جيء به من الجنة ، ولا تعارض بين هذه الأخبار ، حيث أن السيدة فاطمة ( عليها السلام ) ولدت بعد المعراج بثلاث سنين ، ولا يبعد أن يكون النبي قد تناول التفاح والرطب وثمارا أخرى ليلة المعراج ، ولما عاد إلى الأرض أكرم بتحفة الرب إكراما وإعظاما وتلبية لرغبة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في تناول ثمار الجنة ، فأهدى له منها بعد المعراج أيضا .
وعدم التنافي بين الأخبار واضح جدا لمن كان له ممارسة في أخبار أهل بيت العصمة ( عليهم السلام ) .
وينبغي التوقف عند الخبر الأخير ، لما فيه من دلالة على عظمة الزهراء وعلو شأنها ومكانتها حيث سيتضح للمتأمل : أولا : تجلي جبرئيل بصورته الأصلية ، وقد تجلى للنبي في موضعين آخرين : أحدهما في غار حراء يوم المبعث ، على ما روي ، والآخر ليلة المعراج بمفاد قوله ( ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى ) .
وفي هذا دليل على عظمة مهمته وجلالة الأمر الذي جاء به ، وهو انعقاد النطفة الطاهرة لفاطمة المطهرة .
ثانيا : التعبد بصيام وقيام أربعين يوم وليلة ، وإعتزال الخلق ، وهجران فراش خديجة ، وفي هذا دليل على شرف عدد الأربعين ، وتشديد الشوق والميل الطبيعي للسيدة خديجة والنبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وبعبارة أخرى : إن من لوازم مقتضيات الطبيعة البشرية أن يكون البعد والإعتزال مقويا لانعقاد النطفة الزكية ، خصوصا مع ملاحظة ارتياض المولى رياضة تكسر الشهوات وتكدر اللذات ، حتى حصل الاستعداد لقبول الهدية السماوية والعطية العلوية ، لئلا يقع القصور والفتور بعد الرياضة النفسانية في عملية توديع تلك الوديعة الإلهية .
ثالثا : إن هذا النوع من الرياضة والإعتزال كرامة وتكريم للحامل والمحمول ، وإبراز لانتظار الوصول للمأمول ، وأي مقصود ومأمول أشرف وأفضل عند الرسول ( صلى الله عليه وآله ) من القدوم البهيج لفاطمة البتول التي كان يتمنى رؤيتها ويتطلع إلى إيناع هذه الثمرة عن هذه الشجرة ، ويفوز بلقاءها الحبيب .
رابعا : نزول الملائكة المقربين الثلاثة ، خصوصا إسرافيل ، حيث لم ينزل قط سوى تلك المرة مصحوبا بالتشريفات الخاصة من السندس والإبريق والمنديل وعنقود العنب والتمر والماء في طبق من الجنة ، كل ذلك كرامة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وإكراما لفاطمة ، حيث أنزلت تلك العطايا والهدايا يحملها كبار سكان الملأ الأعلى وهم يفتخرون ويتباهون بإبلاغ البشارة العظمى .
خامسا : ترك الصلاة تلك الليلة والتعجيل بالمضاجعة إشارة إلى أهمية الأمر وفوريته ، فأمر بالتعجيل لئلا يقع قصور أو خلل في إنجاح المهمة وإنجاز المرام ، أو يقع التعلل والمسامحة في أمر الله ، وكأن التعجيل بهذا العمل من أجل تنجيز الأمر الإلهي .
سادسا : إن تعدد ثمار الجنة من تفاح ، ورطب ، وعنب وغيرها ، إشارة للآثار الخاصة التي أودعها الله في كل واحدة منها ، فأكل كل ثمرة يؤثر أثرا خاصا في الملكات الكريمة في النطفة الإنسانية المودعة ، وإن كانت ثمار الجنة تحتوي على جميع اللذات والنعم في آن واحد ، ويمكن أن تنال ما تشاء في الثمرة الواحدة ، يعني أنك تجد في التفاح حلاوة الرطب .
ويمكن أن يقال أن التفاح والعنب والرمان والرطب من الجنة هو نفس نور فاطمة الزهراء ، ولكنه تلبس بهذا اللباس في عالم الملك ، كما في الخبر المعتبر في البحار ، وهذا يعني أنه ( صلى الله عليه وآله ) تناول النور الفاطمي مجسما ، فصار مظهرا للنور على النور ، وهو الذي مدخله نور ومخرجه نور وطعامه نور ، وكلامه نور ، وهو على نور من ربه ، ولذا قال ( صلى الله عليه وآله ) : إن هذا الطعام حرام على غيري ، وشاهد النور في بطن خديجة بعد المواقعة مباشرة ، وعلى ما هو المعلوم فإن ما ينزل من عالم الملكوت إلى عالم الملك يلبس لباسا آخرا يناسب عالم الملك لضيقه وصغره وعدم استعداده ، وإثبات هذا الأمر واضح بين .
سابعا : إحساس خديجة ( عليها السلام ) بالحمل فورا خلافا للمعتاد بين النساء ، وفي ذلك خصيصة عظمى وعلى حياة تلك النطفة المباركة في البداية والنهاية ، لأنها نطفة قادمة من دار الحيوان . وفي الحديث أنها كانت كالإمام تسمع وترى بعد يوم واحد من انعقاد نطفتها في رحم الأم خديجة ( عليها السلام ) .
بيان آخر والآن ; لا بأس أن تعرف ما معنى أكل الرسول عرق جبرئيل وزغبه ؟ ! إعلم : أن الجنة دار الحيوان ودار الله ومحل الرضوان ، وكل ما فيها من أشجار وأثمار وأنهار وغيرها منسوب إلى الله ، وجميع سكانها هم أهل الله وخيرته من خلقه وزبدة عبيده ، كما أن الثمرة خلاصة الشجرة وعصارتها ، وجبرئيل خير أهل الملكوت وخلاصتهم وعصارتهم ، وعرق كل شئ أصفى منه ، وكأنه عصارة ذلك الشئ وخلاصته وجوهره .
وفي الحديث إشارة إلى أن فاطمة ( عليها السلام ) خلقت من خلاصة دار الله وعصارة دار الحيوان ، حيث أفيضت عليها الحياة الأبدية التي لا ممات فيها ولا فناء ، بل هي حياة خالدة سرمدية ، وقد ذكرت كتب الأخبار حديث وداعها للحسنين حينما ألقوا بنفسيهما على بدنها فمدت باعها وأخرجت يديها من الكفن واحتضنتهما .
والخلاصة : إن هذا النحو من التكوين خاص بوجودها المقدس وليس لأحد هذا الشرف منذ أن أسكن آدم وحواء في هذه الدار . وخير لنا أن نبسط البيان فنقول : لم ير أحد جبرئيل بالعين الظاهرة في زمن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سواه ، وإنما كان رسول الله يراه بعينه النبوية لتجانسهما وتسانخهما وعدم مغايرتهما في صفاء الجسمانية ومقتضى النورانية ، ولأنهما من مبدأ واحد ومشتقان من مادة واحدة ، ولا خلاف في اتصال نورهما وارتباط وجودهما .
وكذلك كان نور فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، الذي تجسد في صورة التفاحة من الجنة ، متحدا مع الذات النبوية المقدسة ، وكان الحامل والمحمول والآكل والمأكول في غاية التلائم والتناسب .
وجبرئيل الأمين ( عليه السلام ) هو خلاصة سكان الملكوت الأعلى ، وجسمه اللطيف غير الأجسام الترابية الظلمانية ، وهو رشحة من رشحات الذات المقدسة النبوية ، غير أنه كان إذا توجه إلى هذا العالم لبس كسوة تناسب هذا العالم ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله و ) يراه بهذا الكسوة ، فإذا أبلغ الوحي ورجع إلى مقره الأصلي خلع عنه تلك الكسوة وعاد إلى ما كان عليه .
والآن نسأل : من أين كان عرق جبرئيل ؟ هل كان من بدنه الأصلي أم من بدنه المستعار ؟ من المعلوم أن التعرق من لوازم هذا العالم وهذا البدن العنصري ، فلا يبعد أن يقال : أن عرق جبرئيل كان من بدنه الملكي مع بقاء كون بدنه غير الأبدان العنصرية الظلمانية .
وإن قيل : إن عرقه كان من بدنه الأصلي ، فقد يقال : أن ذاك البدن لا يعرق ، وكل عاقل يعلم أن إدراك حقيقة جبرئيل لا تسعها عقولنا ، فكيف نتصور عرقه ؟ وكذلك القول في زغبه وجناحه ، حيث أن عالم البدن الأصلي لجبرئيل لا زغب فيه ولا جناح .
ومن هنا يعلم أن نور فاطمة كان في صورة تفاحة الجنة حقيقة ، وإنما تصورت بهذه الصورة لتناسب مذاق روح روح العالمين ، وتكون مادة لتلك النطفة الزكية .
والتعرق من مقتضيات الحركة والحرارة ، والمحرك هنا المحبة ، حيث ضمها جبرئيل كما تضم الروح العزيزة ، وألصق تلك العطية السماوية والهدية العلية بصدره حتى امتزج بها عرقه وزغبه اللطيف ، وناولها النبي ( صلى الله عليه وآله ) فوضعها على عينه وضمها إلى صدره إعظاما لهدية الله ومحبة لكرامة الله ، ثم استئذن جبرئيل وتناولها .
ولا يقدر أحد قط على تصور حالة النشاط والسرور والانبساط التي عاشها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وجبرئيل في تلك اللحظة .
أما جبرئيل : فلأنه كان حاملا لذلك النور الموفور السرور ، وأنه رد الوديعة الإلهية وأدى الأمانة ، ويشهد لبالغ سروره شدة التزامه وضمه إياها إلى صدره ، وهو تعبير عن شدة الحب .
وأما النبي ( صلى الله عليه وآله ) : فقد سر لهذا العطاء والكوثر الكثير ، لما امتن به الله عليه وأراه ثمرة شجرة وجوده وحاصل عمره ، واسترد وديعته المنيفة حيث تناولها من يد الحق ، فعاد النور إلى النور ورجعت تلك اللطيفة الإلهية إلى مقرها الأصلي ، وصار صلب النبي الأطهر ( صلى الله عليه وآله ) مقرا لذلك النور المطهر .
وأما زغب جبرئيل فكأنه تعويذ وحرز لحفظ روح قدوة آل الخليل ( عليه السلام ) ، وقد ورد نظيره في البصائر والبحار من تعويذ فاطمة ( عليها السلام ) الحسن والحسين ( عليهما السلام ) بزغب جبرئيل حيث جمعته وشدته بساعديهما .
وأيضا عن الصادق ( عليه السلام ) أنه كان يجمع بيده المبارك من حجرته الشريفة ما يتناثر فيها من زغب الملائكة .
وأما إذا قلنا : أن زغب جبرائيل كان من جسده الأصلي ، فلا يسعنا إلا أن نقول : إنها الإفاضات والبركات الخاصة .
ويعد نزول الملائكة إلى الأرض رحمة وبركة للعالمين ، ونزولهم على بيت ، أو أهل بيت ، بركة على بركة ، سيما إذا كان النازل جبرئيل الأمين إمام الملائكة وحامل الوحي شديد القوى ، الذي كان ينزل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) بآلاف الفيوضات المعنوية والفواضل الروحانية البهيجة ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يغتنم رحمة قدومه ويتلطف إليه تلطفا خاصا .
وعليه : فالمراد من زغبه وعرقه الألطاف الخاصة والأفضال المختصة التي كان يفيضها مفيض الخير والجود على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الجليل بواسطة جبرئيل ( عليه السلام ) .
وبعبارة أخرى : إن قسما من أقسام نور وجود جبرئيل ( عليه السلام ) ألحق – حينئذ – بأمر الملك العلام بتلك النطفة الزكية ، فأشرق فيها وصار جزء متمما ومكملا لها في هذا العالم العنصري ، وعبر عن ذلك بالزغب والعرق لضيق عالم الملك والشهود عن استيعاب جزئيات الملكوت الأعلى .
ولعل الصفرة التي تعتري وجه فاطمة الطاهرة وقت الظهر إشارة إلى صفرة زغب جبرئيل ( عليه السلام ) .
ولعله بقي هذا اللون – وهو برزخ بين البياض والحمرة – في وجهها الوضاء من إفاضات نور جبرئيل ( عليه السلام ) .
وسبق وأن ذكرنا حديثا في هذا المعنى في الحديث عن معنى « الزهراء » وخلق العقيق الأصفر من النور الزهرائي .
وأما إذا ذهبنا إلى أن العرق والزغب كان من ذاك البدن اللطيف الحسي المستعار لجبرئيل ، كما ورد في الأخبار ، فلا يعدو ذلك أن يكون خصيصة من خصائص فاطمة ( عليها السلام ) ، حيث امتزجت صورتها الحسية وقالبها الملكي – أي تفاحة الجنة – بذاك العرق والزغب .
وليس في رجال الأبرار ولا نساء العالمين الأطهار من فاز بمثل هذا الفخر والمنزلة ، وليس من النطف الزكية للأنبياء والأولياء نطفة واحدة كان جبرئيل وسيطا في إقرارها في مستقرها . وهذا دليل على حرمتها وشرفها الذاتي ، وهو إكرام وإعظام لسيد الأنام عليه الصلاة والسلام .
أضف إلى ذلك أن عرق جبرئيل كان قوة لذاك الروح المجسم والجسم المجرد للإقبال على الطاعات والاشتغال بالعبادات عونا على القيام بوظائف العبودية .
فهذه القوالب النوارنية الثلاث ، والصور الجسمانية جاءت من الذروة العليا والمقصد الأسنى ، ومزجوا بها العرق من كل بدن لإخفاء حالة من الحالات ، وصبوا الغذاء في قالب من القوالب تصويرا لنور من الأنوار .
وأهل الحق إذا أرادوا التعبير بتعبير واضح يستسيغه سمع هذا البدن ، عبروا عنه بالعرق ، وإذا أرادوا إسماع الروح ، عبروا عنه بالفيض واللطف أو البركة والرحمة ، لأن الأولياء الكاملين يعربون عن معلوماتهم على حسب الإدراكات المختلفة للسامعين « إنا أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم لا عقولنا » .
ومن هنا يمكن أن يقال : إن مدركات الأذن الباطنية مسموعات مستورة سرية على آذان الأبدان الحسية ، ولما كان أهل إدراك المعاني والأسرار قليلون ، قل الحديث من هذا النوع وتوجه الحديث للسامعة الحسية .
ولي حديث آخر يتطلب أذنا خاصة ، حيث أن عالم الخلق مادي وتدريجي الوجود ، وثمراته تدريجية الحصول ، وقد اقتضت الحكمة الإلهية البالغة في الإنماء والإنشاء منذ يوم الأزل أن يكون لكل موجود أسبابا ووسائط مقدرة تترتب عليها مسببات منتظمة إلى يوم القيامة ، وجميع الأصول والكليات التي يدور عليها هذا العالم تدور مدار الخلق والرزق والإماتة والإحياء بمفاد قوله ( خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم ) .
ولهذا ; جعل الروح الأمين واسطة في أمر الخلق لإفاضة الحياة في خلق الإيجاد ، فصار دخيلا في حياة كل ذي حياة ، كما صار عزرائيل دخيلا في قبض روح كل ذي روح ، وميكائيل دخيلا في رزق كل مرزوق ، وإسرافيل في إحياء كل النفوس في الوقت المعلوم بالنهج المعلوم .
وبناء على هذا ، فإن الروح الأمين هو السبب الأقوى في إفاضة الروح ومنح الحياة لكل الكائنات ، وكان عليه – حسب التكليف – أن يفيض في هذا الموقع الشريف والمورد المنيف إفاضة خاصة ويوصل مددا خاصا في حياة تلك النطفة الطيبة ; لذا أفاض عرقه على تلك التحفة السنية والتفاحة العلية .
ولما كانت هذه الموهبة الكبرى أمرا عظيما وقضاءا مقدرا وحكما مبرما ، ترتب على عقد هذا الجوهر الثمين نتائج عظمى وآثار جسام .
ولهذا أرسل جبرئيل الأمين إعظاما في بدو انعقاد نطفتها الشريفة إلى الأبطح ، فبدا في صورته الأصلية مع جمع من الملائكة العظام للتبشير بوجودها ، وهناك أيضا مزجوا نطفتها بالجوهر الصافي لخلاصة سكان الملكوت الأعلى ، لتبلغ آثار إفاضات منبع الفيض والحياة كافة البريات .
قيل : إن الخضر النبي ( عليه السلام ) كان إذا جلس في مكان اخضر ذاك المكان واعشوشب لأنه شرب جرعة من ماء الحياة ، وكان موكب جبرئيل القادم من دار الحيوان إذا أصاب تراب قدمه الجماد الصامت نطق ، كما صار لعجل السامري خوار ، إذ أن جميع الجسمانيات تتأثر بالروح الأمين وتظهر عليها علامات الحياة .
فعرق جبرئيل أفاض الحياة الخالدة على تلك النطفة الطيبة ، وعلامة تلك الفيوضات والألطاف الربانية الخاصة التي أودعت فيها قبل التوديع وجبلت في سجيتها الزكية أنها تكلمت في رحم أمها قبل الولادة خلافا للعادة ، وأنها أقرت بالشهادتين وذكرت أسماء أبنائها المعصومين جميعا ; وسيأتي الحديث عن ذلك مفصلا ضمن الكلام عن ولادتها إن شاء الله تعالى .
في بيان معنى الحديث : « فاطمة خير نساء أمتي إلا ما ولدته مريم ( عليها السلام ) » مقارنة بين فاطمة ( عليها السلام ) ومريم ويمكن استنتاج المعنى المذكور من الحديث المشهور على الألسن ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « فاطمة خير نساء أمتي إلا ما ولدته مريم » .
فإذا قلنا أن « إلا » للاستثناء يعترضنا إشكال عضال إنبرى أهل التحقيق لبيانه والإجابة عليه تفصيلا ، وليس الآن محل بيانه .
ولكن الكلام في قوله « إلا ما ولدته مريم » فالظاهر من مقصود سيد الأنام أفضلية مريم على نساء الأمة بمولودها عيسى ( عليه السلام ) ، حيث أنها ولدته ولم يمسسها بشر وليس لفاطمة هذه المكرمة فتكون مريم أفضل نساء الأمة من هذه الجهة ! والذي خطر على بالي حين التحرير أن هذا الحديث يؤكد مضمون الحديث السابق ، من أن فاطمة خلقت من عرق جبرئيل وزغبه ، وبيانه يحتاج إلى مدد من الروح الأمين ، فنقول : لما كان المركوز في الأذهان في ذاك الزمان أن مريم أفضل من هذه الجهة ، فقد أجاب عنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في هذا الحديث تلويحا حيث قال : إن سبب فضيلة مريم في ولادتها كان موجودا في ولادة فاطمة ( عليها السلام ) أيضا ، والفيض النازل عليها من روح القدس نازل على فاطمة ( عليها السلام ) أيضا في تلك التفاحة وفي ما أفاضه عليها الروح الأمين .
فالمراد من الحديث بيان الواقع والمماثلة من هذه الجهة بين فاطمة ومريم ( عليها السلام ) مما لم تسبق إليه الأذهان . فتكون فاطمة كمريم تماما ، ويدل عليه الحديث السابق ( حديث العرق والزغب ) .
وقيل : « إلا » في الحديث بمعنى « حتى » – كما في مجمع البيان – فمراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بيان أفضلية فاطمة على نساء الأمة وتماثلها مع مريم ( عليها السلام ) في إفاضة حياة روح القدس ، فما ثبت لمريم ثبت لفاطمة ( عليها السلام ) ، ولا امتياز حينئذ لمريم على الصديقة الكبرى ( عليها السلام ) ، بل هو – في الحقيقة – اثبات لمزية فاطمة ( عليها السلام ) وأفضليتها على مريم ( عليها السلام ) .
نعم ; يبقى فرق وهو أن ما جادت به مريم كان من عالم الأمر وما اختصت به فاطمة كان من عالم الخلق ، والنطفة العيسوية كانت نفحة الحق من الروح الرحماني كما قال الله تعالى ( فنفخنا فيه من روحنا ) ، والنطفة الفاطمية المباركة من عالم الأنوار ، وقالبها الجسماني من مواد أشجار دار القرار ، وهو في الحقيقة يعود أيضا إلى عالم الأمر .
ووجود عيسى آية لوجود آدم أبو البشر المشعر بالقدرة الربانية الكاملة ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ) ، ولكن وجود آدم آية عظمى من آيات الوجود الشريف لأم الأئمة الأطهار .
وقد يتوهم أحد من ظاهر قوله تعالى ( لأهب لك غلاما زكيا ) أن مريم من جبرئيل ، وهو كذلك ولكن بالواسطة من حيث إفاضة الحياة ، لا بالإصالة وبالذات . وعلى أي حال ; فإن للروح الأمين مدخلية في إنشاء الحياة في عالمي الأمر والخلق ، وهما مختصان بالله تبارك وتعالى ( ولله الأمر والخلق ) .
وخير لي – أنا الجاهل الغافل العاجز العاطل – أن أكم فمي وأكف يدي عن تحرير مثل هذه المقالات ، والحال أن أسرار أخبار آل الرسول في نهاية الأفول والخمول ، ووا أسفاه لسوء الحظ ، وجمود الذهن ، وخمول الفكر ، وقصور النظر ، والابتعاد عن المبدأ ، وعدم الأنس بكلام أئمة الدين ، والتغافل عن ملازمة المحدثين ، والحضور في مجالس الرواة لأخبار آل طه ويس .
ثم إن حديث إن أمرنا ، أو إن سرنا ، أو إن أحاديثنا أو حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه بنور الإيمان يبعدني ويلقنني كل آن ، ويذكرني بفقدان القابلية وعدم الاستعداد ويطرق مسامعي دائما ، كما قيل : « أين الثريا من الثرى ؟ » ، وكيف تشاهد الحوراء بعين عوراء ؟ ! خيال حوصله بحر مى پزم هيهات * چهاست در سراين قطره محال انديش فالقلب الذي امتحنه الله بالإيمان يحتمل أسرارهم ( عليهم السلام ) ، أما من لا يعرف أسرار آل العصمة فلا حظ له ولا نصيب ، وفهم أسرار آل الرسول وأسرارهم يتأتى للمؤمن على قدر إيمانه ، والمؤمن الكامل كالكيمياء والعنقاء مستور وراء حجب الخفاء . ولذا تقدمت إلى الأعتاب الرفيعة المنيعة لفاطمة الطاهرة ( عليها السلام ) مؤملا وأنا أقول : « وفي الزمان سابق الخيل يرى ، وعند الصباح يحمد القوم السرى » .
ولا حول ولا قوة إلا بالله .
الخصيصة الرابعة من الخصائص الخمسة ذكرت الأخبار المعتبرة أن النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دخل ليلة المعراج إلى الجنة وأكل من ثمارها ، خصوصا من ثمار شجرة طوبى ، ورطب جنة المأوى وتفاحها ، ثم عاد إلى الأرض وواقع خديجة سلام الله عليها ، فانعقدت النطفة الطاهرة لفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) .
وهناك أخبار أخرجها المجلسي في بحار الأنوار ، وهي توافق مذهب الشيعة ، تدل على أن ولادة تلك المخدرة كانت بعد الإسراء والمعراج بثلاث سنين ، وهذا يعني أن الفاصلة بين المعراج وانعقاد النطفة دامت سنتين وثلاث شهور تقريبا بعد حذف مدة الحمل ( تسعة شهور ) ، وهو يعارض مضمون الأخبار المعراجية التي ذكرت أن النبي واقع بعد الإسراء والمعراج مباشرة ، وقد ذكرنا أيضا أخبارا في نزول جبرئيل إلى الأرض حاملا التحفة السماوية التي أكلها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وواقع خديجة فانعقدت منها النطفة الطاهرة .
وقد مر بيان ذلك بالتفصيل ، ولكن فيما يخص انعقاد النطفة بعد المعراج مباشرة فان المروي – كما ذكره المجلسي – أن معراج النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن مرة واحدة ، بل كان مائة وعشرين مرة ، وإن كان الواجب عند الإمامية الإعتقاد بمعراج جسماني واحد حدث بعد الإسراء ، فبلغ فيه النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى مقام قاب قوسين أو أدنى .
فالمعراج السير من الأرض إلى السماء ، والمعراج آلة العروج والصعود ، والثابت في الأخبار أنه عرج عدة مرات ، وكان أحدها عروجا في ليلة من الليالي إلى ما دون السماء السابعة ، حيث دخل الجنات وأكل من فاكهتها لتنعقد منها النطفة المباركة ، وكانت هذه المرة عروجا خاصا لإنجاز هذا العمل ، وكان مقارنا لهبوط الروح الأمين ( عليه السلام ) بالفواكه من الجنة ليقدمها إلى النبي ، فكان شرفا فوق شرف .
فنقول : إن الغرض – في هذه الدفعة المعراجية – دخول الجنة والتناول من فاكهتها من أجل انعقاد النطفة الفاطمية ، ولما كان هذا الأمر من الأمور المهمة وفيه غاية الآمال وتحقق المقصود في المآل ، كلف النبي ( صلى الله عليه وآله ) مباشرة وبدون واسطة للقيام بهذه المهمة إكراما وإعظاما لفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، فعرج إلى السماء ، ولا ينافيه نزول الطبق ، حيث أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أظهر إشتياقا لفاكهة الجنة ، فنزل جبرئيل بالعنب والرطب والتفاح . ولا تعارض في تعدد الفاكهة – أيضا – فنور فاطمة تجلى في الجنة وظهر في كل تلك الأنواع ، وكل نوع كان ظرفا وقالبا ومظهرا ومجلى لنورها ، وقد جعل الله في كل ثمرة – كما مر بيانه – أثرا ، بحيث تكون بمجموعها مكملات ومتممات لتلك النطفة الزكية . وكان عليه ( صلى الله عليه وآله ) أن يأكل كل واحدة حسب الأمور المقرر والحكمة الكاملة ليترتب أثرها . وفي المقام أخبار عديدة بمضامين مختلفة يشكل طرحها ويسهل جمعها بالنحو المذكور فيسقط التعارض .
في أن نطفتها ( عليها السلام ) لم تستقر إلا في صلب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ورحم خديجة ( عليها السلام ) أما أنا فلي قول آخر يثبت خصيصة خاصة لفاطمة الطاهرة : بمعنى أن النور الأنور لفاطمة لما خلق فقد كان له تجليات عديدة في عالم الأنوار ، وتجليات خاصة في عالم الجسمانيات ، حيث تجلت مرة في ساق العرش ، ومرة في السماوات بنحو خاص ، وتجلت مرة في الجنة لآدم وحواء ( عليهما السلام ) في صورة جارية حسناء ، ومرة في حقة النور ، ومرة حجبت في القنديل ، ومرة في التفاح والرطب والعنب ، وهكذا حتى عرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واسترد الوديعة بلا واسطة ، وتناول الفاكهة المعهودة .
وبناء على هذه الأخبار ، لم يستقر النور المطهر لأم الأنوار في صلب آبائها الكرام وأرحام أمهاتها المكرمات ، ولم يمسها صلب أو رحم إلا ما كان من صلب أبيها الطاهر ورحم أمها خديجة المطهر ، وهذه خصيصة من شرائف خصائص تلك المخدرة .
وقد تبين بالبيان السابق أن فواكه الجنة كانت ظروفا لنور فاطمة ، وأنها تنورت بطريقين : أحدهما بالأصالة وبالذات ، حيث أنها منسوبة لدار الحيوان ، والآخر بالعرض باعتبارها ظرفا لذلك النور ، فأصبح الظرف والمظروف مادة لتلك النطفة الطيبة ، وقد تناولهما النبي ( صلى الله عليه وآله ) معا وتوأما .
انظروا أيها الأحبة إلى هذا الشرف الرفيع والفضل العظيم ! وكيف أن الرب العطوف من على حبيبته فاطمة وجعلها في حجاب الحياء ، وحفظها في ستار العصمة ! فإن قيل : إن الأخبار ذكرت أن جبرئيل اقتطف التفاحة وناولها النبي ( صلى الله عليه وآله ) في الجنة ، أو أنه حملها معه إلى الأرض وضمها إلى صدره ثم قدمها للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وعلى كلا الخبرين فقد مس جبرئيل تلك التفاحة ، فكيف قلت : إن نطفتها المباركة لم يمسها أحد أليس ، هذا تعارض وتناقض ؟ ! قلت : أولا : إن مس الظرف غير مس المظروف .
وثانيا : إن المراد من عدم المس ، نفي مس البشر وأصلاب الآباء وأرحام الأمهات ، لا مس الملائكة . وثالثا : لا يمكن أن ينعقد هذا العقد بدون توسط جبرئيل ، وهو الواسطة في إفاضة الحياة كما تقدم .
ورابعا : إن إيصال جبرئيل ، الملك الجليل المقرب من الساحة الأحدية ، المتعلق بالكمال والتمام بالعرى الربانية ، المنسوب إلى سيد الأنام بصفة الخدمة والأخوة ، المحسوب في عداد هذه الأسرة الطيبة ، المفتخر بالكون منها ، خارج عن هذا العنوان ولا يدخل ضمن هذا الكلام ، بل يعد شرفا لهذه الأسرة حيث صار بيتهم مهبطا لجبرئيل ومحلا لنزوله .
قالت فاطمة ( عليها السلام ) في مرثيتها : وكان جبريل روح القدس يؤنسنا * فغاب عنا وكل الخير محتجب (فكان لأهل بيت الرسالة كرامتان من نزول جبرئيل : أحدهما نزوله بالوحي ، والثاني نزوله بدون وحي ، ونزوله مطلقا وإن كان بدون وحي دليل على نزول البركات وإفاضة الفيوضات ، ومن مفاخر الآل أن بيوتهم كانت مختلف الملائكة .
وإني أعتقد : أن جبرئيل انقطع عن النزول لتبليغ الوحي حيث انقطع الوحي بموت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولكنه كان ينزل خمس مرات في اليوم على فاطمة بعد أداء الفرائض ، ويزورها ويحدثها بما يشبه الوحي ، ويخبرها بما هو كائن وما يكون ، ويسليها ، ومنه تجمع مصحف فاطمة ( عليها السلام ) ، وبعد وفاة فاطمة انقطع جبرئيل عن النزول إلى الأرض ، ومراد الزهراء ( عليها السلام ) من انقطاع روح القدس وغيابه – في مرثيتها – انقطاع الوحي بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولجبرئيل خصوصية من بين مفردات السلسلة الملكوتية في حفظ الأسرار والمحرمية المعنوية مع السيد المختار ، فله موقع خاص من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بين سكان السماوات ، وكما كان لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) موقع خاص منه في الأرض ; ولذا استأذن جبرئيل في الدخول تحت الكساء – في حديث الكساء – مع وجود فاطمة ، ثم أذن له فدخل ونال ذاك الشرف العظيم . وفي رواية أنه باهى بهذا الإذن ملائكة السماء .
وعلى ما هو المعلوم أن الجهة المانعة من دخول جبرئيل كانت وجود فاطمة ( عليها السلام ) بينهم ، والإستئذان كان رعاية للأدب معها ( عليها السلام ) ، فلما أذن له افتخر وتباهى لأنه صار محرما وموضعا لأسرارهم ( عليهم السلام ) ، وعلم اتصاله وانتسابه المعنوي إلى آل العصمة ، وكأن الاستئذان كان اختبارا ليعرف ما إذا كان له قابلية الحضور في هذا الجمع .
ثم عاد من بعد الإذن إلى سدرة المنتهى مسرورا محبورا مختبطا بما لا يصفه بيان ، ولا يسعه التصور في جنان ، وفي ذلك قال ابن أبي الحديد المعتزلي شعرا : يزاحمهم جبريل تحت كسائهم * لها قيل : كل الصيد في جانب الفرا وقد جعلت في شرحي لحديث الكساء ، هذه القضية دليلا على عصمة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، حيث أن جماعة معصومة كهذه لا يمكن أن يحضرها ويدخل فيها إلا من كان معصوما ، أما غير المعصوم فلا يؤذن له بالدخول كما فعل بأم سلمة حينما سألت الدخول معهم ، فأجابها النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « إنك على خير » ، فلم يؤذن لها بالدخول لعدم عصمتها ، أو لوجود أمير المؤمنين ( عليه السلام ) معهم .
وهذه الدقائق واللطائف لم يذكرها أحد من أهل الحديث ، ولو ذكروها لم يقيدوها بالكتابة ويحصروها في كتاب ، وإني ذكرتها على سبيل الإختصار اضطرارا وأشرت إليها إجمالا لأطوي صفحات هذا الدفتر الفاطمي بسرعة ، خوفا من أن تحول إطالة الحديث دون إتمامه لحلول الأجل ، فالحديث طويل والعمر غايته في القصر .
تأييد فيه تسديد إعلم ; أن من المفاخر المشهورة لفاطمة الطاهرة المنصورة أن العلماء الأعلام قالوا : إنها أول وليدة في الإسلام .
والمحقق أنها أصغر أخواتها وكانت أكبرهن زينب وكانت في حبائل أبو العاص بن الربيع . قال محمد بن إسحاق – من علماء العامة – : ولدت زينب من خديجة بعد ثلاثين سنة من ولادة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وقيل : تزوجها أبو العاص قبل البعثة ونزول الوحي ، وكان أبو العاص من تجار مكة المكرمة المرموقين ، فإن كان كذلك يكون عمرها يوم دخلت بيت أبي العاص تسع سنين ، ولا يبعد أن تكون فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في نفس هذا السن يوم دخلت بيت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
وولدت رقية بعد زينب بثلاث سنين ، وتزوجها عتبة ابن أبي لهب ، وكانت ذات جمال رائع ، ثم تزوجها عثمان . وولدت أم كلثوم بعد رقية ، وهي أكبر سنا من فاطمة ( عليها السلام ) ، وتوفين جميعا إلا فاطمة ( عليها السلام ) قبل وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بفترة وجيزة .
والحاصل : أن لم تلد في الإسلام إلا فاطمة ( عليها السلام ) وذلك لأن أداء التكليف الإلهي ابتدأ بمجيء الإسلام وبعثة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم إعتزل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثلاث سنين بعد البعثة ولم يصدع بالأمر ولم يكن من أهل الإيمان يومها إلا نفران ، رجل وامرأة ، هما أمير المؤمنين وخديجة الطاهرة وثالثهما فاطمة حيث أن خديجة ولدت فاطمة ( عليها السلام ) لخمس سنين بعد النبوة ، أي في بدو ظهور الإسلام ، أما باقي بناتها فقد دخلن الإسلام بعد الهجرة أو مقارنا لها ، بينما ولدت المعصومة الكبرى ونزلت من رحم أمها مسلمة مؤمنة إلى حين وفاتها ، وكم يشابه قبول إسلام فاطمة ( عليها السلام ) وهي صغيرة إسلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واستكماله الخصال المحمودة منذ نعومة أظفاره ، وهذا خير دليل على التأييد السبحاني والتسديد الرباني لهما .
وعادة المرتاضين أنهم يرتاضون أربعين سنة أو أربعين يوما ، ثم لا بد أن يجنوا ثمرة رياضتهم بالوصول إلى مطلوبهم وتحقيق مقصودهم ، والنبي ( صلى الله عليه وآله ) تعبد بالعبادات الخاصة وصبر فظفر بالثمرة ، وأفاد خير فائدة ، وهي الوجود المقدس لسيدة النسوان وروح العالمين ، حيث كانت دائما وأبدا تشاهد وهي في كنف الحضرة النبوية الإشراقات والإلهامات والإفاضات والإيحاءات التي كان ينزل بها روح القدس جبرئيل الروح الأمين ( عليه السلام ) ، فتستفيض منها في كل آن وزمان .
نعم ، لقد ولدت فاطمة فتجلى نور جديد ، وانجلت نورانية خاصة ، وصار لدعوة سيد الأنام قوام جديد من بزوغ ذاك النور وطلوع ذاك الوجود المقدس ، ودبت حياة جديدة في الكيان الإسلامي ، وقد قيل : إن البنت بركة وقدومها ينزل الرحمة ، فكانت بشارة خير وتفأل حسن صدق الخبر اليقين ، حيث أضحت سوق الإسلام تزدهر بعد ولادتها يوما فيوما ، وصارت حصون الشرك والكفر تندك رويدا رويدا ، وأخذت الأصنام وعبادها والملل وأصحابها والديانات القديمة وأتباعها تتزلزل ، فذهلوا وتخبطوا وحاولوا وتشبثوا بكل صغير وكبير ، والتجؤا إلى سلاطين الأرض لعلهم يكسروا شوكة الإسلام ويحدوا صولته وينجوا من سطوته .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا معشر العرب ! أنتم في شر دار وفي شر دين ، بين حجارة خشن وحيات صم تشربون الكدر وتأكلون الجشب ، تسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم ، والآثام بكم معصوبة والأصنام فيكم منصوبة . . . إلى آخر ما قال ( عليه السلام ) .
فيمكن أن يقال : إن من معاني فاطمة أن وجودها الجواد فطم وقطع الإسلام عن الكفر « فطمت عن الشرك وعن الشر ، وعن الدنيا وشهواتها » .
وهذا وجه وجيه وبيان مليح ، فالشجرة إذا قطع منها مائة غصن وبقي فيها غصن واحد اشتدت وقوت وقامت بذاك الغصن ، وشجرة النبوة الطيبة لا غصن لها في بدء الإسلام إلا ذاك الغصن الرفيع والفرع المنيع ; ولذا ظهرت منها جميع قوى النبي ( صلى الله عليه وآله ) متدرجة من القوة إلى الفعل ، وأمير المؤمنين صنو تلك الشجرة وشبيهها وعديلها ، وهما من أصل واحد ، فهما شقيق وزميل .
ويصح أيضا أن نقول : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) غصن منيع من الأغصان الباقية لشجرة إبراهيم الخليل المباركة ، وثمرته الوجود الأقدس لفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) .
أو نقول : إن نبي الرحمة ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثمرة شجرة عالم الإمكان ، وفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) جوهر تلك الثمرة وحقيقتها ، وكمال الشجرة أوان ظهور ثمرتها وزمان نضوج حملها .
وبالبداهة وشهادة الوجدان : إن الثمرة الواحدة من الشجرة تعطي أشجارا وثمارا تنسب جميعها إلى تلك الثمرة ، وتلك الثمرة هي خلاصة الشجرة . . ولذا صح أن يقال لفاطمة ( عليها السلام ) : أم أبيها ، وأم العلوم ، وأم الفضائل ، وأم الأزهار ، وأم الكتاب ، وأم القرى ، وفي هذا دليل على صحة ما أسلفنا من أقوال في الخصائص السابقة . وعلى أي حال ; فإن وجود فاطمة كان برهانا قاطعا على حقيقة نبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولربما عرف الأب بالولد ، وإن كان بنتا ، فكما كان لفاطمة شرف النبوة من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، كان للنبي ( صلى الله عليه وآله ) فخر الأبوة لفاطمة ، وقد جعلها الله مساوية لأمير المؤمنين في آية المباهلة .
والخلاصة : لا يمكن أن يعذلني أحد أو يلومني على كلماتي المكررة وفقراتي المقررة المسطرة ، فأنا العبد الذليل العليل ، أرى نفسي تالي الغالي في تحرير وتقرير فضائل تلك المخدرة وفواضلها ، وإني أعتقد بما يدل على علو قدرها وسمو مقامها بما هو فوق ما يتصور ويدور في الخلد ، إلا ما كان من مرتبة النبوة والولاية المرتبطتين والمتحدتين ببعضهما ، ولكل منهما مقامه ومزيته ، فلا أجد مرتبة أعلى وأجلى من مرتبة الريحانة المصطفوية وشمس الفلك المحمدية .
وأملي أني استطعت أن أخرج ما في كوامني ، وأبدي ما في خلدي ، وأكتب في هذه الصحيفة الفاطمية ليبقى ذكري ، أودعها في هذه الأوراق لعلي أزرع في قلوب محبي فاطمة وذريتها الطاهرة بذور الود والمحبة ، فأجد بذلك طريقا إلى دعائهم ، فقد تشملني دعواتهم وتوجب لي الغفران والبعد عن الخذلان والخسران .
اللهم أنت ولي نعمتي ، والقادر على طلبتي ، وتعلم حاجتي ، فأسألك بك وبحق فاطمة عليك ; لا بل بحقك عليها ، أن تجعلني من محبي محبيها ، ولا تفرق بيني وبينهم طرفة عين أبدا .
الخصيصة الخامسة من الخصائص الخمسة والآن ; وقبل الورود في صلب الموضوع ، نتناول بنحو الإختصار ما قرأناه ورأيناه في الصحف السماوية والكتب المنزلة السالفة من أوصاف فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ; لتعمر به قلوب أهل الإيمان والوداد ، فإني وإن لم أجدها مبوبة في باب ، أو مجموعة في كتاب ; إلا أني استقصيتها ما استطعت ، وذكرتها في هذه الخصيصة ; ليعلم محبي أهل البيت ( عليهم السلام ) أن محبتها كانت منذ الأعصار السالفة والقرون القديمة في كل قلب ، وذكرها جار على كل لسان ، ومزين به كل محفل ، وأن الله سبحانه علم أنبياءه ورسله أوصافها وأخلاقها الكريمة فردا وجمعا ، وجعلها تالية لمرتبة خاتم الأنبياء والمرسلين منذ يوم الميثاق « يوم السبت » في عالم الأنوار والأرواح ، قبل إيجاد العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار والسماء والأرض .
والأفضل أن نفتتح الكلام بالحديث المروي في تفسير العياشي عن عبد الرحمن عن الصادق ( عليه السلام ) قال : إن الله تبارك وتعالى عرض على آدم في الميثاق ذريته ، فمر به النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو متكئ على علي ( عليه السلام ) وفاطمة صلوات الله عليها تتلوهما ، والحسن والحسين ( عليهم السلام ) يتلوان فاطمة ، فقال الله : يا آدم ! إياك أن تنظر إليهم بحسد أهبطك من جواري ، فلما أسكنه الله الجنة مثل له النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين – صلوات الله عليهم – فنظر إليهم بحسد ، ثم عرضت عليه الولاية فأنكرها ، فرمته الجنة بأوراقها ، فلما تاب إلى الله من حسده وأقر بالولاية ودعا بحق الخمسة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) غفر الله له وذلك قوله ( فتلقى آدم من ربه كلمات ) .
والكلمات التي لقنها إياه جبرئيل هي « يا حميد بحق محمد ، يا عالي بحق علي ، يا فاطر بحق فاطمة ، يا محسن بحق الحسن والحسين ومنك الإحسان » .
وروى في الدر الثمين أن آدم توسل بالخمسة الطيبة فاستجيب له ( وستأتي في أخبار التوسل ) . وفي كتاب تفضيل الأئمة على الأنبياء للحسن بن سليمان قال : ذكر السيد حسن بن كبش بإسناده مرفوعا إلى عدة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منهم جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وعبد الصمد بن أبي أمية وعمر بن أبي سلمة وغيرهم قالوا : لما فتح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة أرسل إلى كسرى وقيصر يدعوهما إلى الإسلام أو الجزية وإلا آذنا بالحرب ، وكتب أيضا إلى نصارى نجران بمثل ذلك .
فلما أتتهم رسله ( صلى الله عليه وآله ) فزعوا إلى بيعتهم العظمى ، وكان قد حضرهم أبو الحارثة أسقفهم الأول وقد بلغ يومئذ مائة وعشرين سنة ، وكان يؤمن بالنبي والمسيح ( عليهما السلام ) ويكتم ذلك عن كفرة قومه ، فقام على عصاه وخطبهم ووعظهم وألجأهم بعد مشاجرات كثيرة إلى إحضار الجامعة الكبرى التي ورثها شيث ، ففتح طرفها واستخرج صحيفة شيث التي ورثها من أبيه آدم ( عليه السلام ) ، فألفوا في المسباح الثاني من فواصلها : « بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا أنا الحي القيوم معقب الدهور وفاصل الأمور ، سببت بمشيئتي الأسباب ، وذللت بقدرتي الصعاب ، وأنا العزيز الحكيم الرحمن الرحيم ، أرحم ترحم ، وسبقت رحمتي غضبي وعفوي عقوبتي ، خلقت عبادي لعبادتي وألزمتهم حجتي ، ألا إني باعث فيهم رسلي ، ومنزل عليهم كتبي أبرم ذلك من لدن أول مذكور من البشر إلى أحمد نبيي وخاتم رسلي ، ذلك الذي أجعل عليه صلواتي ورحمتي ، وأسلك في قلبه بركاتي ، وبه أكمل أنبيائي ونذري .
قال آدم : من هؤلاء الرسل ؟ ومن أحمد هذا الذي رفعت وشرفت ؟ قال : كل من ذريتك ، وأحمد عاقبهم ووارثهم . قال : يا رب بما أنت باعثهم ومرسلهم ؟ قال : بتوحيدي ، ثم أقفي ذلك بثلاثمائة وثلاثين شريعة أنظمها وأكملها لأحمد جميعا ، فأذنت لمن جاءني بشريعة منها مع الإيمان بي وبرسلي أن أدخله الجنة .
قال : قال آدم ( عليه السلام ) : حق لمن عرفك يا إلهي بنعمتك أن لا يعصيك بها ، ولمن علم سعة رحمتك ومغفرتك أن لا ييئس منها .
قال : يا آدم ! أتحب أن أريك أبناءك هؤلاء الذين كرمتهم واصطفيتهم على العالمين ؟ قال : نعم أي رب ، فمثلهم الله تبارك وتعالى قدر منازلهم ومكانتهم من فضله عليهم ونعمته ، ثم عرضهم عليه أشباحا في ذرياتهم وخاص أتباعهم من أممهم ، فنظر إليهم آدم وبعضهم أعظم نورا من بعض ، وإذا فضل أنوار الخمسة أصحاب المقامات والشرائع من الأنبياء كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وفضل العاقب محمد ( صلى الله عليه وآله ) في عظم نوره على الخمسة كفضل الخمسة على الأنبياء جميعا .
فنظر فإذا حامة كل نبي وخاصته من قومه ورهطه آخذون بحجزة ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله ، تتلألأ وجوههم وتشرق جباههم نورا ; وذلك بحسب منزلة ذلك النبي ( صلى الله عليه وآله ) من ربه وبقدر منزلة كل واحد من بنيه .
ثم نظر آدم ( عليه السلام ) إلى نور قد لمع فسد الجو المنخرق ، وأخذ بالمطالع من المشارق ، ثم سرى حتى طبق المغارب ، ثم سما حتى بلغ ملكوت السماء ، فإذا الأكناف قد تضوعت طيبا ، وإذا أنوار أربعة قد اكتنفته عن يمينه وشماله ومن خلفه وأمامه ، أشبه به أرجا ونورا ، يتلوها أنوار من بعدها يستمد منها ، وإذا هي شبيه بها في ضيائها وعظمها ونشرها ، ثم دنت منها فتكللت عليها وحفت بها ، ونظر فإذا أنوار من بعد ذلك في مثل عدد الكواكب ودون منازل الأوائل جدا جدا ، ثم طلع عليه سواد كالليل وكالسيل ، ينسلون من كل وجه وأوب ، فأقبلوا حتى ملأوا البقاع والأكم ، وإذا هم أقبح شئ هيئة وصورا وأنتنه ريحا .
فبهر آدم ( عليه السلام ) ما رأى من ذلك فقال : يا عالم الغيوب ويا غافر الذنوب ويا ذا القدرة الباهرة والمشيئة الغالبة ، من هذا السعيد الذي كرمت ورفعت على العالمين ؟ ومن هذه الأنوار المنيفة المكتنفة له ؟ فأوحى الله عز وجل إليه : يا آدم ! هؤلاء وسيلتك ووسيلة من أسعدت من خلقي ، هؤلاء السابقون المقربون والشافعون المشفعون ، وهذا أحمد سيدهم وسيد بريتي ، اخترته بعلمي ، واشتققت اسمه من اسمي ، فأنا المحمود وهذا أحمد ، وهذا صنوه ووصيه ووارثه وجعلت بركاتي وتطهيري في عقبه ، وهي سيدة إمائي والبقية في علمي من أحمد نبيي ، وهذا السبطان والمخلفان لهم ، وهذه الأعيان المضارع نورها أنوارهم بقية عنهم ، إلا أن كلا اصطفيت وطهرت ، وعلى كل باركت وترحمت ، وكلا بعلمي جعلت قدوة عبادي ونور بلادي . . . إلى آخر الحديث وهو طويل وفي غاية الشرف .
والغرض من ذكر الحديث ما ورد فيه من ذكر اسم فاطمة ونعتها بأنها « سيدة إمائي والبقية في علمي . . . » ، ثم ذكر في آخر الحديث توسل آدم ( عليه السلام ) بالخمسة الطيبة وقبول توبته بهم ; قال : « فلما قارف آدم الخطيئة وأخرج من الجنة ، توسل إلى الله وهو ساجد بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) وحامته وأهل بيته هؤلاء ، فغفر له خطيئته وجعله الخليفة في أرضه » .
ثم قال : فلما أتى القوم على باقي المسباح الثاني من ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) وذكر أهل بيته ( عليهم السلام ) ، أمرهم أبو حارثة أن يصيروا إلى صحيفة شيث الكبرى التي ميراثها إلى إدريس ( عليه السلام ) ، وكان كتابتها بالقلم السرياني القديم ، وهو الذي كتب به من بعد نوح ( عليه السلام ) ملوك الهياطلة المتماردة ، فافتض القوم الصحيفة فأفضوا منها إلى هذا الرسم .
قالوا : اجتمع إلى إدريس ( عليه السلام ) قومه وصحابته ، وهم يومئذ في بيت عبادته من أرض كوفان ، فخبرهم بما اقتص عليهم من فضل وشرف محمد وآل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فألزمهم أبو حارثة وأتم الحجة على النصارى . والحديث بتمامه في المجلد السابع من البحار .
وفي تفسير العياشي وتفسير الإمام ( عليه السلام ) وكتاب كشف اليقين وكتاب الروضة في باب مكاشفات آدم أبو البشر ، ذكرت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في موارد متعددة بأوصاف حسنة جيدة ، وجعلها مفخرا لآل طه ويس .
وفي البحار حديث رؤية آدم وحواء لفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في الجنة وهي جالسة على سرير ، وعلى رأسها تاج ، وفي جيدها قلادة ، وفي أذنيها قرطان ، وما قاله جبرئيل ( عليه السلام ) مما يفهم علو المكانة وسمو الرتبة ورفعة القدر لمقام النبوة والولاية وإمامة الحسنين وجامعية تلك المخدرة الكبرى ، ثم ذكر أسماء الخمسة الطيبة وقول آدم ( عليه السلام ) : مالي إذا ذكرت أربعة منهم تسليت بأسمائهم من همومي ، وإذا ذكرت الحسين ( عليه السلام ) تدمع عيني وتثور زفرتي ؟ وفي ذلك دليل واضح وبرهان لائح على توسل آدم ( عليه السلام ) بفاطمة الطاهرة ( عليها السلام ) .
وفي فضائل ابن شاذان والبحار وأمان الأخطار للسيد ابن طاووس – طاب رمسه – عن أنس بن مالك عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : لما أراد الله عز وجل أن يهلك قوم نوح ( عليه السلام ) أوحى الله إليه : أن شق ألواح الساج ، فلما شقها لم يدر ما يصنع بها ، فهبط جبرئيل فأراه هيئة السفينة ومعه تابوت فيه مائة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار ، فسمر المسامير كلها السفينة ، إلى أن بقيت خمسة مسامير .
فسمر المسمار الذي كان باسم خير الأولين والآخرين ( محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) في أولها على جانب السفينة اليمين .
وسمر مسمار أخيه وابن عمه علي بن أبي طالب على جانب السفينة اليسار في أولها ، وأشرق وأضاء كل منهما .
ثم ضرب بيده إلى مسمار ثالث فزهر وأشرق وأنار ، فقال : هذا مسمار فاطمة ، فأسمره إلى جانب مسمار أبيها ، فلما أشرق نورها وأضاء العالم قال جبرئيل : يا نوح ! هذا نور فاطمة الطاهرة بنت خير الأولين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين .
وسمر مسمارين آخرين باسم الحسن والحسين ( عليهما السلام ) في طرفي السفينة ، فأزهرا وأشرقا وأنارا ، وكان في مسمار الحسين علاوة على النور نداوة ظهرت وبكاء بدا من المسمار .
والحديث طويل فيه تفصيل والمراد ذكر مكاشفة نوح ( عليه السلام ) .
وروي من طريق الفريقين كثير في الأحاديث القدسية في إرائة ملكوت السماوات لإبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، ومشاهدة الأنوار الخمسة الطيبة ، وتجلي نور فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في نظر الخليل ; ففي بعضها : لما خلق الله إبراهيم الخليل كشف الله عن بصره ، فنظر إلى جانب العرش فرأى نورا ساطعا فقال : إلهي وسيدي ! ما هذا النور ؟ قال : يا إبراهيم ! هذا محمد صفيي .
فقال : إلهي وسيدي ! أرى في جانبه نورا آخر ؟ فقال : يا إبراهيم ! هذا علي ناصري .
فقال : يا إلهي وسيدي ! أرى في جانبيهما نورا ثالثا ؟ فقال : يا إبراهيم ! هذه فاطمة تلي أباها وبعلها ، فطمت محبيها عن النار . قال : إلهي وسيدي ! أرى نورين بميامن الأنوار الثلاثة . قال الله تعالى : هذان الحسن والحسين يليان أباهما وجدهما وأمهما .
قال : إلهي وسيدي ! أرى تسعة أنوار أحدقوا بالخمسة الأنوار .
قال : يا إبراهيم ! هؤلاء الأئمة من ولدهم . . . إلى آخر الحديث .
وفي أمالي الصدوق ( قدس سره ) عن الإمام الحسن ( عليه السلام ) :« أن يهوديا سأل النبي عن خمسة أشياء مكتوبات في التوراة أمر الله بني إسرائيل أن يقتدوا بموسى فيها من بعده . . قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : فأنشدتك بالله إن أنا أخبرتك تقر لي ؟ قال اليهودي : نعم يا محمد .»
فقال النبي : أول ما في التوراة مكتوب محمد رسول الله ، وهي بالعبرانية « طاب » ، ثم تلا رسول الله هذه الآية ( يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) ، وفي السطر الثاني اسم وصيي علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، والثالث والرابع سبطيي الحسن والحسين ، وفي الخامس أمهما فاطمة سيدة نساء العالمين صلوات الله عليها ، وفي التوراة اسم وصيي « إيليا » واسم سبطيي « شبر » و « شبير » ، وهما نورا فاطمة ( عليها السلام ) ثم ذكر فضائلهم ومناقبهم .
وروى عن كعب الأحبار اليهودي في وصف ولادة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وما دار بينه وبين ليث بن سعد في مجلس معاوية ، فقال كعب : إني قرأت اثنين وسبعين كتابا كلها أنزلت من السماء ، وقرأت صحف دانيال كلها ، وودت في كلها ذكر مولده ومولد عترته ، وإن اسمه لمعروف ، وأنه لم يولد نبي قط فنزلت عليه الملائكة ، ما خلا عيسى وأحمد صلوات الله عليهما ، وما ضرب على آدمية حجب الجنه غير مريم وآمنة أم أحمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وما وكلت الملائكة بأنثى حملت غير مريم أم المسيح ( عليه السلام ) وآمنة أم أحمد ( صلى الله عليه وآله ) . . . ونجد في الكتب أن عترته خير الناس بعده ، وأنه لا يزال الناس في أمان من العذاب ما دام من عترته في دار الدنيا خلق يمشي . فقال معاوية : يا أبا إسحاق ! ومن عترته ؟ قال كعب : ولد فاطمة ، فعبس وجهه وعض على شفتيه وأخذ يعبث بلحيته .
فقال كعب : وإنا نجد صفة الفرخين المستشهدين ، وهما فرخا فاطمة ( عليها السلام ) ، يقتلهما شر البرية . قال : فمن يقتلهما ؟ قال : رجل من قريش ، فقام معاوية وقال : قوموا إن شئتم ، فقمنا .
وفي معاني الأخبار للصدوق عليه السلام والرضوان ، عن المفضل بن عمر الجعفي ، عن الصادق ( عليه السلام ) قال : «إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ، فجعل أعلاها وأشرفها أرواح محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم ، فعرضها على السماوات والأرض والجبال فغشيها نورهم ، فقال الله تعالى للسماوات والأرض والجبال : هؤلاء أحبائي وأوليائي وحججي على خلقي وأئمة بريتي ، ما خلقت خلقا هو أحب إلي منهم ، ولمن تولاهم خلقت جنتي ، ولمن خالفهم خلقت ناري .»
وهذا الحديث النوراني طويل ، وفي آخره توسل آدم وحواء بالأنوار الخمسة الطيبة ، قال : اللهم إني أسألك بحق الأكرمين عليك محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة إلا تبت علينا ورحمتنا ، فتاب الله عليه وهو التواب الرحيم .
وفي كتاب جاماسب المنجم في وصف نبي آخر الزمان ، ذكر كلاما طويلا ثم ذكر بقية الخلفاء إلى الحجة بن الحسن صلوات الله وسلامه عليه ، وقال : إذا ظهر بهرام – وهو اسم الإمام الغائب عجل الله تعالى فرجه – أباد أتباع إهرمن ، وهو من شمس العالم وسيدة النساء وهي بنت المبين ، والمبين باللغة الپهلوية تعني « محمد ( صلى الله عليه وآله ) » .
وقال : إنه يظهر في آخر الدنيا ويعيش مدة بمقدار عمر سبعة كراكس ، ويخرج وقد مضى من عمره ثلاثين قرنا .
وله كلام آخر طويل اكتفينا بموضع الحاجة حيث ذكر اسم فاطمة الشريف .
فاسمها الشريف ووصفها المنيف مذكور في كل صحف الأنبياء وكتبهم ، من آدم وشيث وإدريس ونوح وهود وإبراهيم ( عليهم السلام ) ، وفي التوراة والزبور والإنجيل ، وكان للأنبياء توجها خاصا للأنوار الأربعة ، وكان لهم توجها قلبيا وتوسلا مخلصا خاصا بنور فاطمة ( عليها السلام ) .
وفي كتاب الغيبة ( إكمال الدين ) لثقة المحدثين الصدوق ، وقديما قيل « وعند جهينة الخبر اليقين » و « إن القول ما قالت حذام » ، روى عن عبد الله بن سليمان قال : قرأت في الإنجيل في وصف النبي ( صلى الله عليه وآله ) نكاح النساء ذو النسل القليل : إنما نسله من مباركة لها بيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب ، يكفلها في آخر الزمان كما كفل زكريا أمك ، لها فرخان مستشهدان .
والأفضل لطلاب هذه الأخبار مراجعة المجلد السادس من بحار الأنوار في أحوال سيد الأبرار ، حيث سيجد أوصاف الصديقة الكبرى مفصلة بالكمال والتمام . وهذه الصفات من أعظم المناقب وأعلاها وأقوم المواهب إلى ذروة الشرف وأسناها .
تود نفوس الفاخرين لو سمعت * بواحدة منها تتمناها لها شرف فوق شرف ، وكمال فوق كمال ، ونور على نور ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : هؤلاء الذين أمر الله تعالى بمودتهم : علي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) .
وقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : «فاطمة مهجة قلبي ، وزوجها قرة عيني وولداها ثمرة فؤادي ، والأئمة من ولدها أمناء ربي وحبله الممدود بين الناس وبين ربي ، فمن تمسك بهم نجى ، ومن تخلف عنهم فقد هلك وإلى جهنم سلك ، كذا في ربيع الأبرار للزمخشري .
ويكفي في شرف قدر فاطمة الطاهرة توسل الآباء المكرمين والأجداد الميامين لخاتم المرسلين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بها ، كلما نزلت بهم الشدائد والأهوال وأرادوا النجاة من البلايا والمهالك ، كما كان الناس يتوسلون بها وبالخمسة الطيبة ، وفي كل شديدة وضراء ، فقد ورد أن في ليلة انعقاد النطفة المباركة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ضرب مكة المكرمة زلزال عظيم حتى تهاوت الصخور من على أبي قبيس ، فخرج أبو طالب ( عليه السلام ) فعلا مرتفعا وقال : « إلهي وسيدي أسألك بالمحمدية المحمودة ، وبالعلوية العالية ، وبالفاطمية البيضاء إلا تفضلت على تهامة بالرحمة والرأفة » فسكنت الأرض ، وحفظ الناس هذه الكلمات وأخذوا يدعون بها في الشدائد والبلايا دون أن يعرفوا المقصود منها .
لا يخفى ولا يخفى ; أن أعظم وأقوم وأجلى وأظهر مكاشفات وتجليات شفيعة العرصات وسيدة الكائنات ما كان في مكة المكرمة من دعاء أشرف البريات صلوات الله وسلامه عليه أمام أنظار الملأ من المنافقين والمشركين من أهل مكة الوارد في الحديث الآتي ، وهذا الحديث الشريف لوحده كاف لبيان جلالة قدرها وعلو مقامها ورفعة رتبتها ، وهو من المعاجز الباهرة للحضرة النبوية المقدسة .
وقد ورد الحديث في المجلد السادس من بحار الأنوار عن كتاب تفسير الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، ننقل منه موضع الحاجة لطول الحديث : لما سأل مشركو مكة وأبو جهل من النبي معاجز نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وقالوا : « فإن كنت نبيا فأتنا بآية كما تذكر عن الأنبياء قبلك مثال نوح الذي جاء بالغرق ونجا في سفينته مع المؤمنين ، وإبراهيم الذي ذكرت أن النار جعلت عليه بردا وسلاما ، وموسى الذي زعمت أن الجبل رفع فوق رؤوس أصحابه حتى انقادوا لما دعاهم إليه صاغرين داخرين ، وعيسى الذي كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم » . . .
فقسمهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) أربع فرق ، وقال للفريق الرابع ورئيسهم أبو جهل : وأنت يا أبا جهل فأثبت عندي . . . وقال للفريق الثاني المقترحين لآية إبراهيم ( عليه السلام ) : امضوا إلى حيث تريدون من ظاهر مكة ، فسترون آية إبراهيم ( عليه السلام ) في النار ، فإذا غشيكم البلاء فسترون في الهواء امرأة قد أرسلت طرف خمارها ، فتعلقوا به لتنجيكم من الهلكة وترد عنكم النار . . . . . .
فجاءت الفرقة الثانية يبكون ويقولون : نشهد إنك رسول رب العالمين وسيد الخلق أجمعين ، مضينا إلى صحراء ملساء ونحن نتذاكر بيننا قولك ، فنظرنا السماء قد تشققت بجمر النيران تتناثر عنها ، ورأينا الأرض قد تصدعت ولهب النيران يخرج منها ، فما زالت كذلك حتى طبقت الأرض وملأتها ومسنا من شدة حرها حتى سمعنا لجلودنا نشيثا من شدة حرها ، وأيقنا بالإشتواء والإحتراق بتلك النيران ، فبينما نحن كذلك إذ رفع لنا في الهواء شخص امرأة قد أرخت خمارها فتدلى طرفه إلينا بحيث تناله أيدينا وإذا مناد من السماء ينادينا : إن أردتم النجاة فتمسكوا ببعض أهداب هذا الخمار ، فتعلق كل واحد منا بهدبة من أهداب ذلك الخمار ، فرفعنا في الهواء ونحن نشق جمر النيران ولهبها لا يمسنا شررها ، ولا يؤذينا حرها ولا نثقل على الهدبة التي تعلقنا بها ، ولا تنقطع الأهداب في أيدينا على دقتها ، فما زالت كذلك حتى جازت بنا تلك النيران ، ثم وضع كل واحد منا في صحن داره سالما معافا ، ثم خرجنا فالتقينا فجئناك عالمين بأنه لا محيص عن دينك ولا معدل عنك ، وأنت أفضل من لجىء إليه ، واعتمد بعد الله إليه ، صادق في أقوالك ، حكيم في أفعالك .
كل ذلك كان يسمعه أبو جهل فلا يزداد إلا حسدا وعنادا . قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لهذه الفرقة الثانية لما آمنوا : يا عباد الله إن الله أغاثكم بتلك المرأة أتدرون من هي ؟ قالوا : لا .
قال : تلك تكون ابنتي فاطمة وهي سيدة النساء ، إن الله تعالى إذا بعث الخلائق من الأولين والآخرين نادى منادي ربنا من تحت عرشه : يا معشر الخلائق غضوا أبصاركم لتجوز فاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله ) سيدة نساء العالمين على الصراط ، فتغض الخلائق كلهم أبصارهم ، فتجوز فاطمة على الصراط ، لا يبقى أحد في القيامة إلا غض بصره عنها إلا محمد وعلي والحسن والحسين والطاهرون من أولادهم فإنهم محارمها ، فإذا دخلت الجنة وطرف في عرصات القيامة ، فينادي منادي ربنا : يا أيها المحبون لفاطمة ، تعلقوا بأهداب مرط فاطمة سيدة نساء العالمين ، فلا يبقى محب لفاطمة إلا تعلق بهدبة من أهداب مرطها ، حتى يتعلق بها أكثر من ألف فئام وألف فئام . قالوا : وكم فئام واحد يا رسول الله ؟ قال : ألف ألف وينجون بها من النار .
هذه تمام الخصائص الثلاثين وتأتي بعدها الخصائص المتعلقة بولادة الصديقة الكبرى صلوات الله عليها وعلى أبيها وعلى بعلها وبنيها وذريتها .
الخصائص الخمسون من ولادتها سلام الله عليها الخصيصة الأولى في ولادتها في تعيين اليوم والشهر والسنة التي ولدت فيها فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) إعلم أن هناك اختلافا بين الإمامية وبين أهل السنة والجماعة في تعيين اليوم والشهر والسنة التي ولدت