مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
مقاصد الشريعة في خطبة السيدة الزهراء .
+ = -

مقاصد الشريعة في خطبة السيدة الزهراء .

مقاصد الشريعة هو علمٌ أول من كتب فيه من علماء إخواننا أهل السنة إمام الحرمين الجويني في كتابه «البرهان في أصول الفقه المتوفى» عام 474 هـ ، ثم توالت الكتابات إلى أن كتب فيه الشاطبي المتوفى عام 790 هـ  كتب «الموافقات في الشريعة»، لكن بالنسبة إلى الشيعة فهم قبل ذلك، فأول من كتب في هذا العلم هو أبو الفضل بن شاذان في كتاب «العلل» وهو المتوفى سنة ه260؛ أي أن الإمامية كتبت في علل الشريعة ومقاصدها قبل غيرها من المذاهب، ثم جاء الشيخ الصدوق وكتب كتاب «علل الشرائع» المتوفى سنة 381 هـ ، ثم توالت الكتب، كما ذكره الشهيد الأول في كتابه «القواعد والفوائد» وهو المتوفى سنة 786 هـ .

ومقاصد الشريعة في خطبة السيدة الزهراء   س نتحدث عن ملامح أربعة لمقاصد الشريعة في خطبتها  :

الملمح الأول:

السيدة الزهراء قسمت التشريعات إلى جوانحيه وجوارحيه، والجواريحية إلى خاصة وعامة، والخاصة إلى فردية واجتماعية، وكل ذلك في هذه الخطبة التي ألقتها في مسجد الرسول   فقالت: «فَجَعَلَ اللهُ الإيمانَ تَطْهيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ» «وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجابِ الأْجْرِ» فالإيمان والصبر عبادتان جوانحيتان، التشريع الجوارحي: «وَالصَّلاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ» «والصِّيامَ تَثْبيتاً للإِخْلاصِ».

ثم تعرضت إلى تقسيم هذه العبادات الجوارحية إلى عبادات خاصة مثل الصلاة والصوم، وإلى عبادات عامة مثل: الزكاة «والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق» الزكاة ضريبة مالية عامة، والحج «والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ» لأنه يشكل عبادة عامة.

وتعرضت في تقسيمها إلى الوظائف الخاصة الفردية والوظائف الاجتماعية «وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهاً عَنِ الرِّجْسِ» «وَتَرْكَ السِّرْقَةِ إيجاباً لِلْعِفَّةِ» قضايا فردية، وأما القضايا الاجتماعية عندما قالت «وَالْجِهادَ عِزاً لِلإْسْلامِ» «وَالأْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعامَّةِ»

الملمح الثاني:

يذكر فقهاؤنا أن هناك فرقاً بين العلة والحكمة، فالعلة هي الغاية من التشريع، والتشريع يدور مدارها، وأما الحكمة هي فائدة تترتب على العمل بالتشريع لا أن التشريع يدور مدارها، ومثال على ذلك عندما نأتي إلى علة تحريم الخمر وأن علته الإسكار، فالخمر محرم لأنه مسكر حكم يدور مداره، أو عندما يقول الله تبارك وتعالى في علة تحريم الربا ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 279].

وأما الحكمة للمطلقة عندما تعتد ثلاثة قروء ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228] والمراد بها ثلاثة حيضات، وقد بررت بعض الروايات ذلك لمنع اختلاط المياه والأنساب، ولو كانت هذه المرأة لم يجامعها زوجها سنين ومن ثم طلقها، هنا أيضا تحتاج إلى عدة مع أنه لا اختلاط في المياه هنا، أو فرضاً أن هذه المرأة في الأسبوع الأول من طلاقها تستطيع أن تعرف أنها حامل أو ليست بحامل من خلال التحليل والفحص الطبي مع ذلك تحتاج إلى عدة، إذن منع اختلاط الأنساب والمياه ليست علة للحكم، وليست غاية للتشريع، وإنما هي فائدة من فوائده، وحكمة من حكمه.

الزهراء   في خطبتها عندما تقول: «والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق» الأولى علة والثانية حكمة، أي أن الغاية التي من أجلها شرع الله الزكاة هي تزكية النفس؛ لأن الإنسان إذا تخلص من الأموال حصل على تزكية لنفسه ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14] التخلص من هذه الروابط يزكي النفس، وهذه غاية في تشريع الزكاة، ولكن إذا زكى أمواله فإنها تنمو، وهذه فائدة من فوائد الزكاة فتسمى حكمة، فهناك فرق بين العلة والحكمة.

الملمح الثالث:

الأحكام الشرعية على نوعين: متغير وثابت، كل حكم يتغير بسبب الحرج أو يتغير بسبب الضرر فهو حكم متغير، يجب عليك رد السلام إذا سلم عليك مسلم، لكن لو كان رد السلام حرجاً شديداً عليك يسقط عنك وجوب رد السلام، إذن هذا الحكم متغير لأنه يسقط في حالة الحرج ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].

الصوم، صوم شهر رمضان واجب ولكن إذا كان الإنسان مريضاً يسقط عنه الصوم ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، إذن وجوب الصوم صار حكماً متغير.

أما عندما نأتي لحرمة قتل النفس فالحكم ثابت لا يسقط بالحرج ولا بالضرر، حرمة هتك الأعراض حكم ثابت لا يسقط بالحرج ولا بالضرر، إذن هناك متغير وهناك ثابت وقد أشارت السيدة الزهراء   في خطبتها إلى الحكم المتغير والحكم الثابت.

أيضاً من الحكم المتغير: كالصلاة يقول بعض الفقهاء إذا فقدت الطهورين لا تجب الصلاة أداء وتجب قضاء.

فتعرضت إلى الأحكام المتغيرة وتعرضت إلى الأحكام الثابتة، كل حكم يرتبط بمظهر الدين هو حكم ثابت، وكل حكم يرتبط باستقرار الحياة الاجتماعية هو حكم ثابت، قالت: «والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ» الحج حكم ثابت، ما ورد عن الإمام الصادق   يقول في صحيحة معاوية بن عمار: ”لو أن الناس تركوا الحج لوجب على الوالي أن يجبرهم على الحج والمقام عنده، ولو أن الناس تركوا زيارة النبي محمد   لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك والمقام عنده، فإن لم تكن لديهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين“ إذن الحج مظهر للدين وتشييداً له هو حكم ثابت.

العدل هو حكم ثابت «وَالعَدْلَ تَنْسيقاً لِلْقُلوبِ»؛ لأن بها قوام استقرار الحياة الاجتماعية.. وهكذا بقية الأحكام.

الملمح الرابع:

هناك بحث يذكره الفقهاء كيف نكتشف علة الحكم؟ فهل نستطيع بعقولنا أن نستكشف علل الأحكام وملاكاتها؟ لا يمكن ذلك، ففي الرواية عن الإمام الصادق يقول: ”إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة ولا بالآراء الفاسدة“، طريقة استكشاف علة الحكم ولفهم المبرر للحكم هناك عدة طرق:

الطريق الأول: النص، أن يأتي نص من الإمام على أن علة الحكم كذا، كما ذكرنا رواية الإمام الصادق يقول: ”إنما حرمت الخمر لإسكارها“.

الطريق الثاني: يسميه السيد الصدر قدس سره الفهم الاجتماعي للنص، أي مناسبة الحكم والموضوع كما يعبر الفقهاء ترشد إلى مناط الحكم وملاكه، ومثال على ذلك ما ورد عن النبي  : ”من أحيا أرضاً مواتاً فهي له“. فعندما تأتي إلى أرض في الصحراء فارغة لا يملكها أحد وتحييها بالزراعة أو تحييها بالبناء فشرعاً أصبحت تملكها، لكن هل هذه خصوصية في الأرض؟ السيد الصدر يقول علة الحكم ليست الخصوصية في الأرض، بل إن علة الحكم هي بذل الطاقة والجهد، من بذل طاقة وجهد فله حق فيما بذل، وله نتيجة جهده وله نتيجة عمله، لذلك بعض الفقهاء يرى حق الاختراع والبراءة هو حق لصاحبه، هذا باعتبار أنه نتيجة جهد ونتيجة طاقته وعمله.

الطريق الثالث: إلغاء الخصوصية، تأتينا أحكام واردة في مورد معين، لكن نحن نعممها لأننا نفهم علة الحكم، مثلا ما ورد عن الرسول  : ”لا سبق إلا في ثلاث خف وحافر ونصل“.

سابقاً كانوا يتسابقون إما بالخيول وهو الحافر، وإما بالسهام وهو النصل، وإما بالناقة وهي الخف، يعني هل المسابقة المباحة تختص بالمسابقة بالنياق والخيول والسهام فقط؟ لا، بل كل مشروع رياضي، اجتماعي، خيري، وثقافي تتحقق فيه مسابقة، فهي أمر مشروع، يعني هذه الرواية لا خصوصية فيها للخف والحافر والنصل، المهم أن المسابقة في أمر له أثر اجتماعي وله منفعة اجتماعية حينئذ تكون المسابقة فيه جائزة.

الطريق الرابع: الاستقراء، والاستقراء أن نجد حكماً وروايات مضمونها يتكرر في عدة أبواب فنستنطق منها قاعدة عامة، فيكون الاستقراء طريقاً لفهم ملاك الحكم وعلة الحكم، مثلاً عندما نأتي لباب الحج لدينا صحيحة عبد الصمد بن بشير: ”إيما امرئ ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه“. مثلاً ارتكب انسان بعض المحظورات في الحج عن جهل قصوري، كلبس المخيط، وتظليل الرأس، وفي الصلاة إنسان يصلي ولا يقرأ السورة لا يعلم أن السورة واجبة بعد الفاتحة، أو لا يأتي بالتشهد في الركعة الثانية لجهل قصوري، فلا شيء عليه، ورد عن الإمام الصادق   في صحيحة زرارة: ”لا تعاد إلا من خمسة: القبلة، الوقت، والطهور، الركوع، والسجود، والقراءة سنة والتشهد سنة ولا تنقض السنة الفريضة“.

فإذن هذه الأحكام في باب الحج وفي باب الصلاة وبعض الفقهاء يعممه في باب الصيام أيضاً، مثلاً إنسان في الصوم ارتكب مفطراً من غير المفطرات الموجودة في القرآن الكريم عن جهل قصوري، كالدخان الغليظ لو إنسان استنشقه عن جهل قصوري ثم عرف أن هذا مبطل للصوم فصومه صحيح.. وهكذا.

من الأمثلة على دخل الاستقراء في تعميم الحكم أو تخصيصه ما تعرض له فقيه أهل البيت صاحب الجواهر الشيخ محمد حسن الجواهري في كتابه جواهر الكلام في شرائع الإسلام قال: الرواية التي وردت أن المسلم إذا هو مسافر مخير بين القصر والتمام في أربعة مواطن: مكة، المدينة، حائر الحسين  ، ومسجد الكوفة، في هذه المناطق الأربعة يكون الإنسان مخير بين القصر والتمام، بعض الشيعة كالسيد مرتضى عممها لكل قبور أهل البيت، أيُّ عتبة من العتبات المقدسة يكون فيها ولم يقصد إقامة عشرة أيام يكون مخيراً فيها بين القصر والتمام، ويذكر صاحب الجواهر ويقول لا نص على ذلك، ولكن لعل من ذهب إلى ذلك علله بأن قبورهم متساوية في الشرف، ولعله أنه فهم أن العلة أن قبورهم متساوية في الشرف فعممها لكل قبور أهل البيت  ، وهذه خاصية من الصعب تجاوزها، فالإمام أمير المؤمنين   أفضل من الحسين   ومع ذلك فالرواية وردت في قبر الحسين، أي من لم يقم عشرة أيام في كربلاء وهو في الحائر الحسيني  منطقة الحائر الماء الذي حار حول القبر الشريف  هو مخير بين القصر والتمام، بينما لو كان عند الإمام علي   في النجف الأشرف ولم يقصد إقامة عشرة أيام يكون حكمه القصر وليس التمام؛ والعلة أن لتربة الحسين خصوصيه، ولتربة كربلاء خصوصية، ولذلك جاءت الروايات الكثيرة التي تحث على السجود على تربة الحسين  ، وأن السجود على تربة الحسين يخرق الحجب السبع، خصوصاً تربة الحائر مقدارها ستة وعشرون ذراع من حول القبر من الجهات الأربع، هنا لما أرسل المتوكل العباسي الماء على قبر الحسين، أمر المتوكل العباسي بإنهاء قبر الحسين، فأمر بحرث القبر ومحوه وإرسال الماء عليه حتى ينمحي أثره، فلما أرسل عليه ماء الفرات من أجل محوه حار الماء حول القبر في هذه المنطقة ولم ينفذ إليه فسميت المنطقة منطقة الحائر الحسيني، وكانت تربة هذه المنطقة أفضل الترب ويستحب السجود عليها، وأن الله جعل الشفاء في تربته والإجابة تحت قبته، وكانت هذه القبة الشريفة وهذه التربة الشريفة مهبطاً للملائكة ومصلى للأنبياء والمرسلين.