أبعاد الخطبة الفدكية في الدفاع عن الإمامة إستشرافاً لأخطار المستقبل و بيان معالم الحضارة والمدنية
ان التأمل في دور الزهراء “عليها السلام” واستبسالها في الدفاع عن الإمامة ، الى حد الشهادة في هذا الطريق ، لحري بالأمة ان تقف بكل ما تحمل من فكر للنظر الى السر العظيم الذي دفع إمرأة معصومة في مقتبل شبابها ، وفي ظل زوجها الذي هو افضل الخلق بعد رسول الله “صلى الله عليه واله” واشجعهم ، الى انتفاضها بوجه أعتى سلطة غليظة لا تميز بين المرأة والرجل ، بسبب شغفها بالحكم ، وحب الجاه والسلطة فأظهرت عداءها للعترة الطاهرة التي هي الأمتداد الطبيعي للنبي “صلى الله عليه واله وسلم” ، وإرادة السماء.
ان هذا القيام فيه أسرار عظيمة ، وقد تمثلت باليوم الكوني الذي ألقت فيها الزهراء “عليها السلام” خطبتها الفدكية ، وما رافق هذه الخطبة من أفعال قامت بها الزهراء”عليها السلام” جسّدت فيها معالم الحضارة والمدنية من خلال بيان دور المرأة في المجتمع ، هذه الحضارة التي يتباكى عليها اليوم بعض المتأسلمين الذين انبهروا بالحضارة الغربية وما تسوقه لهم من انهم اصحاب الحضارة وان الأسلام يكبت الحريات ويجعلون المرأة مثالاً على ادعاءاتهم الواهية ، من انها حبيسة الدار ومضطهدة في المجتمع المسلم!!.
وكانت الخطبة الفدكية أعظم موقف في تأريخ الأسلام للدفاع عن الإمامة واستشرافاً لما تواجهه اليوم من هجمة عنجهية بمختلف الوسائل ، ومحاولة لَي ساريتها بعد ان ثبتت الإمامة كأصل من أصول الدين ، ونراهم اليوم قد توجهوا الى محاولات قطع ومحاربة امتدادها والدالين عليها وهم الفقهاء ، فعند التمعن بما يجري من أحداث متسارعة اليوم نلحظ عظيم الخطر الذي يحيط بالأمة لا سيما الطبقة الغافلة منها في تحريكها ضد الخط والأمتداد الطبيعي للرحمة الالهية ، المتمثلة بأمير المؤمنين “عليه السلام” والأئمة من ولده ومن ثم الفقهاء ، لُندرك أهمية التأمل في الدور العظيم الذي مارسته الزهراء “عليها السلام” كمكلفة تجاه امام زمانها ، ولكن أي مكلفة هي … انها الزهراء “عليها السلام” وكفى …. وعلاوة على هذا الدور الذي تجلى من خلال الخطبة الفدكية يتبين لنا دقة السيدة الزهراء في تحديد المعالم المستقبلية والتحديات التي ستواجه خط الإمامة ، وكذلك يتبين لنا الحاجة الماسة لأبراز هذا الدور وأظهاره للأمة الغافلة وعدم الأقتصار على وضعه بين دفات الكتب ورفوف المكتبات ، فهذا العطاء الالهي من الظلم ان تحرم الأمة نفسها من النيل منه ، والسير على هديه …والتنبّه الى مخططات أعداء الأسلام وخط الأمامة.
وسوف لا نقف على كل الخطبة ، وانما سنسير سيراً موضوعياً مع ما يلائم الأفكار التي نحاول ان نستشّفها من الخطبة الفدكية وما رافقها من أحداث ، كخروج الزهراء “عليها السلام” من دارها الى المسجد ، ونحاول الأستفادة من أفعال المعصوم بما يخدم تحديات عصرنا ، متوكلين على الله تبارك وتعالى وطالبين منه العون والتسديد.
الكلمات المفتاحية : الزهراء ، الخطبة الفدكية ، الإمامة ، دور الزهراء ، التأريخ المعاصر.
المطلب الأول : منزلة الزهراء عند الله تعالى والآل “عليهم السلام”:
لبيان الدور الذي أدته السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء ” عليها السلام” لا بد من الوقوف ولو بشيء مختصر على مقامات الزهراء ومنزلتها عند خالقها وبعلها وابيها وذريتها ، لأن هناك اصوات حتى في الوسط الأسلامي ، تحاول أن تطعن بمقام السيدة الطاهرة متذرعين بالقول : بعدم صلاحية المرأة للقيادة ، وهذا بدوره يجعل الباب مفتوحاً لتضعيف الدور الألهي العظيم الذي قامت به السيدة الزهراء “عليها السلام” ومن ثم يفتح التساؤلات من قبيل ما الداعي الى تركيزكم على الخطبة الفدكية فهي كلام أُحتج به في وقته وانتهى!!.
ولا نستبعد ان يكون ذلك جزءًا من ذر الرماد في العيون ، لتخفيف قبح ما قام به غاصبي حقها وحق بعلها ، واستشهادها في هذا الطريق ، لذلك عزمنا على ذكر منزلتها عند الله تبارك وتعالى والآل ، قبل الشروع والتأمل في بعض فقرات الخطبة الفدكية.
اولاً: منزلتها “عليها السلام”عند الله تعالى:
لقد نالت الزهراء “عليها السلام” مقامات عالية عند خالقها ، فقد روى الصدوق في علل الشرائع عن أبي عبد الله الصادق “عليه السلام” قال : ” سمعت أبا عبد الله “عليه السلام” يقول : انّما سميت فاطمة “عليها السلام” محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء تناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول : يا فاطمة انّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ، فتحدّثهم ويحدثونها قالت لهم ذات ليلة : أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا : ان مريم كانت سيدة نساء عالمها وان الله عزّ و جل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين”([1])
ومن المقامات التي خُصت بها فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) “هو مقام الرضا أي إن الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها ، حيث جاءت الكثير من الروايات الشريفة المأثورة عن الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) لتؤكد هذه المنقبة العظيمة للصديقة الشهيدة”([2]). عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ” يا فاطمة إن الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك”([3]) وهذا مما يدل على كونها ذو مقام عالي وشريف سامي لها عند الله تعالى ، إذ لا معنى أن يرضى الله لشخص من دون أن يكون له عند الله منزلة وكرامة عليه.
ومن المقامات الاخرى للزهراء “عليها السلام” عند الله تعالى هو مقام الشفاعة ، فقد ورد عن النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : ” يا فاطمة أبشري فلك عند الله مقام محمود تشفعين فيه لمحبيك وشيعتك فتشفعين”([4]).
ومن مقاماتها (عليها السلام) هو مقام علة الإيجاد أي أنها كانت علة الموجودات التي خلقها الباري عز وجل وكما ورد في الحديث الذي يقول فيه الباري عز وجل : ” يا أحمد ! لولاك لما خلقت الأفلاك ، ولولا علي لما خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما”([5]).
وإن أفضل مقام تُعطى فاطمة”عليها السلام”: يوم القيامة هو مقام الشفاعة الكبرى والذي من خلال هذه المنزلة يظهر قدر ومقام فاطمة عند الله تعالى يوم القيامة وأمام الخلائق جميعاً، فلقد ورد… “فإذا صارت عند باب الجنة تلتفت فيقول الله عزوجل : : يا بنت حبيبي ارجعي فانظري من كان في قلبه حب لك أو لأحد من ذريتك خذي بيده فأدخليه الجنة. قال أبو جعفر {عليه السلام{، والله ـ يا جابر إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الرديء . فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة يلقي الله في قلوبهم أن يلتفتوا فإذا التفتوا فيقول الله عز وجل : يا أحبائي ما التفاتكم وقد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي ؟ فيقولون: يا رب أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم ؛ فيقول الله : يا أحبائي ارجعوا وانظروا من أحبكم لحب فاطمة، انظروا من أطعمكم لحب فاطمة انظروا من كساكم لحب فاطمة، انظروا من سقاكم شربة في حب فاطمة، انظروا من ردّ عنكم غيبة في حب فاطمة، خذوا بيده وأدخلوه الجنة . قال أبو جعفر “عليه السلام”: والله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات، نادوا كما قال الله تعالى: { فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم}[6] . فيقولون {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }[7]” . ([8]) .
ثانياً: منزلتها عند رسول الله “صلى الله عليه واله وسلم” :
كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد حلّت في أوسع مكان من قلب أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووقعت في نفسه الشريفة أحسن موقع.
ولم يكن ذلك منبعثاً من العاطفة الأبوية فحسب، بل كان الرسول ينظر إلى ابنته بنظر الإكبار والإجلال ، وذلك لما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من المواهب والمزايا والفضائل، ولعله (صلى الله عليه وآله) كان مأموراً باحترامها وتجليلها فما كان يَدَعُ فرصة أو مناسبة تمرّ به إلاّ وينوّه بعظمة ابنته، ويشهد بمواهبها ومكانتها السامية عند الله تعالى وعند الرسول (صلى الله عليه وآله).
فقد كان يوصي “صلى الله عليه واله وسلم” امته بتعظيم الولد للوالد في حين ان النبي”صلى الله عليه واله وسلم” فعل شيئاً بضد ما امر به امته عن الله تعالى، وهذا ان دل على شيء فهو يدل على عظمة الزهراء “عليها السلام”.
فقد كان (صلى الله عليه وآله) مأموراً باحترامها وتجليلها فما كان يَدَعُ فرصة أو مناسبة تمرّ به إلاّ وينوّه بعظمة ابنته، ويشهد بمواهبها ومكانتها السامية عند الله تعالى وعند الرسول (صلى الله عليه وآله).
وبهذه الأحاديث الآتية – الصحيحة عند الفريقين – يمكن لنا أن نطّلع على المزيد من الأسباب والعلل التي كوّنت في سيدة النساء تلك القداسة والعظمة والجلالة.
فقد روى البخاري في صحيحه أَن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ” فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد ءء”([9]). وروى مسلم النيسابوري في صحيحه قول النبي (صلى الله عليه وآله) : “انما فاطمة بضعة منى يؤذيني ما آذاها”([10]).
وروى الاميني في الغدير حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “يا فاطمة ؟ إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك”([11]).
وروى الشيخ الصدوق في خصاله قول رسول الله صلى الله عليه وآله : “أفضل نساء أهل الجنة أربع : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون”([12]).وغير هذه الاحاديث ورد الكثير في حق فاطمة “عليها السلام” ولكنَّا اعرضنا عنها رعاية للاختصار.
ثالثا : منزلتها وحجيِّتها على الائمة “عليهم السلام” :
لما كانت علّة الخلق هي عبادة اللّه تعالى لقوله : ” ومَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”[13] ، فانّ العبادة لا تتم إلا بمعرفته تعالى ، ومعرفته لا تتم إلا برسله وأوليائه ، إذ هم حججه على العباد في كل زمان فهم الطريق اليه والمسلك إلى سبيله([14]).
عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) . . . قال : ” انّما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ، ثبت أن له سفراء في خلقه ، يُعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم وفى تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه جلّ وعزّ وهم الأنبياء ( عليهم السلام ) وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب في شيء من أحوالهم ، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان ممّا أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين ، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علمٌ يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته “([15]).
فالحجّة اذن هو الدليل إلى الله تعالى يُحذّر به عباده وينذرهم ويهديهم ، فمقام الحجية إلهي تصل بوساطته العلوم الإلهية اللدنيّة إلى عباده ، وإذا كان أهل البيت ( عليهم السلام ) حجج الله على خلقه فانّ أمّهم فاطمة حجة الله عليهم ، وهي ما صرّحت به رواية العسكري ( عليه السلام ) : ” نحن حجة الله على الخلق ، وفاطمة ( عليها السلام ) حجّة علينا “([16]) .
ويشهد لهذا المعنى “كثير غيرها ، ممّا يمكن أن يستشهد له بطوائف أخرى متواترة معنوياً ، من قبيل روايات ترتّب خلقة أنوارهم ( عليهم السلام ) ، ومن قبيل روايات أنّ أحد مصادر علوم الأئمّة مصحف فاطمة ( عليها السلام ) ، ومن قبيل أنّها أوّل مصاديق القُربى الذين لهم ولاية الفيء والأنفال ، وأنّها الشاهد شهادة لدنية بصدق النبوّة في آية المباهلة لمشاهدتها عياناً حقيقة النبوّة . . . وغير ذلك من الآيات والروايات مفادها أنّ الزهراء وإن لم تكن نبيّاً وإماماً إلاّ أنّها حجّة وواسطة علمية للأئمّة ( عليهم السلام ) من ذريتها ، أي أنّها مصدر من مصادر علومهم”([17]).
كل ما اسلفناه يبين عظمة هذه المرأة الجليلة التي هي امتداد لعطر النبوة المحمدية ، وانه ليكفي في حجية مواقفها “عليها السلام” ، لاسيما وان مواقفها شملت جميع مرافق الحياة العقائدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية … ، فاي مورد من موارد الحياة نريد ان ننهله نجده في مواقف الزهراء “عليها السلام” .
المطلب الثاني: ابعاد الخطبة الفدكية :
اولاً: ابراز دور الإمامة والحفاظ على الدالّين عليها .
وهو أجلى ابعاد الخطبة الفدكية انكشافاً عند التأمل بما جرى من تحديات تأريخية لإقصاء الأئمة الهداة وفصلهم عن الأمة ، وما يجري اليوم من تحديات على الدالّين عليها وهم الفقهاء العاملين الورعين، وكيف ان اعداء الأسلام عملوا على خلق شخصيات في داخل المدرسة العلوية في قبال الفقهاء لصرف الأنظار عنهم-الفقهاء- ، وتطبيق مشاريعهم عن طريق هذه الشخصيات التي هدفها الزعامة والسلطة .
وقد يستشعر بعض القرّاء لهذا البحث أن الأمر مبالغ فيه ، وقد يستفهمون عن مدخلية الإمامة والأسلام وأعداءه بالصراع والويلات التي تعاني منها الأمة اليوم ، وما هو شأن الخطبة الفدكية التي ألقتها السيدة الزهراء”عليها السلام” وهي تطالب بحقّها من غاصبيه ، فنحاول أن نختصر الجواب بما يثير البحث والتتبع لدى القارئ الكريم والمسلم الواعي ، ثم نعود الى مقطع من الخطبة الفدكية .
وسنكتفي بمقتطفات مراعاة للأختصار ممايذكره الجاسوس البريطاني (مستر هنفر) الذي صنع الوهابية في قلب الأسلام وكان يحظى بمنزله خاصه عند الحكومة البريطانية ، يقول : ان دولة بريطانيا كانت تفكر منذ وقت طويل حول ابقاء الامبراطورية وسيعة كبيرة كما هي عليه الآن .[18]
وكانوا يعتبرون الهند والصين تحت سيطرتهم فيقول : ” صحيح انا لم نكن نسيطر سيطرة فعلية على أجزاء كبيرة من هذه البلاد لأنها كانت بيد أهاليها الا أن سياستنا فيها كانت ناجحة وفعالة … “[19]. وكان يشير الى النشاطات التجارية التي هي في ظاهرها تجارية فهو كان مسؤول ( شركة الهند الشرقية ) في وقتها.[20] ويعرض اساليبهم في السيطرة على الدول فيقول : ” كنا نضع الخطط الطويلة الامد لاجل سيطرة التفرقة والجهل ، والفقر واحيانا المرض …. وكنا لانجد صعوبة في تغطية نوايانا بغطاء براق في ظاهره “[21] ، ولا يختلف اثنان في وجود هذه المصاديق بارزة في وضح النهار في مجتمعاتنا المسلمة بالذات….ومن خلال هذه الأدوات يستطيعون تحريك الشارع في تلك الدول في اي وقت يشاؤون.
ثم يقول : ” لكن الذي كان يقلق بالنا هي البلاد الاسلامية “[22] ، ويذكر اسباباً لذلك –خوفهم من الأسلام- منها : قوة الأسلام في نفوس ابنائه حتى ان المسلم تزهق روحه ولايخرج الأسلام من قلبه واكبر خطر هم المسلمون الشيعة .[23] وكذلك يذكر ” كنا شديدي القلق من علماء المسلمين … وأهل الشيعة أشد ولاء للعلماء لأنهم يخلصون الولاء للعالم فقط ، ولا يعيرون للسلطة أهمية كافية “[24] ، فعندما تنظر بريطانيا لعلماء الشيعة علينا ان نتسائل من هم العلماء الذين تتخوف منهم بريطانيا والغرب بشكل عام ؟؟ … هل هم المتقمصون لقيادة الأمة بالشعارات الزائفة الذين تحركهم الأيادي الخفية ، أم هم الفقهاء العاملين الورعين المعرضين عن الدنيا الذين أقتدوا بمنهاج الأمامة العلوية … فتأمل .
ثم لو تقدمنا خطوة مع تلك التحديات وكيف يخطط أعداء الأسلام لضرب الأسلام من الداخل ، فسوف نلحظ مقدار التحدي الذي تواجهه الأمة اليوم في تراجع مستوى الوعي عند طبقة كبيرة من المجتمع بسبب الحرب الناعمة التي يشنها أعداء الاسلام والامامة بالذات بجيوشهم الألكترونية والأعلام الزائف وتصدير الشخصيات المهزوزة الى الواجهة ، كل ذلك اليوم جرّ الويلات على الأمة ونشر الفقر والجهل والأنحراف و ….. ولو تأملنا في مقدار ( الأجماع على الطاعة ) من قِبل الامة للفقهاء بين الماضي والحاضر لوجدنا ثمة فرق في قوة الطاعة بفعل الهجمات الشرسة على مقام الفقهاء وتشويش عقول الشباب بالذات وربطهم بما يقال بمواقع التواصل الاجتماعي اكثر مما يصدر عن الفقهاء من توجيهات وهذا نذير خطر ينبغي لكل فرد ان يتحمل مسؤوليته تجاهه
ثم يقول : ” وقد عقدنا المؤتمرات الكثيرة لنلتمس الحلول الكافية لهذه المشاكل المقلقة “[25] ، طبعاً ومن أبرز تلك الحلول وأهمها التي عمل عليها اعداء الأسلام هي ضرب الرموز الدينية الفاعلة في الساحة الأسلامية ، وفي الوقت ذاته تسليط الأعلام على رموز أخرى مصطنعة تخدم مصالح اعداء الأسلام ، وابرازها الى الساحة كقادة عظماء أفذاذ .
وبالعودة الى الخطبة الفدكية يمكن للأمة ان تلحظ الخيوط العريضة التي أثبتتها الزهراء لقيادة الأمة ، من خلال التصريح بولاية أمير المؤمنين “عليه السلام” وذكر المواصفات التي أمتاز بها عن غيره ، فمن لم يقتد بصفاته “عليه السلام” ، كيف يمكن للأمة ان تُعطيه زمام أمرها ، وتتبين من هم المدعين زوراً وبهتاناً والمتقمصين لزعامة الامة بالترغيب والترهيب والخداع.
فقالت الزهراء “عليها السلام” في طيات خطبتها : ” كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله ، سيداً في أولياء الله ، مشمراً ناصحاً ، مجداً ، كادحاً ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأنتم في رفاهية من العيش ، وادعون فاكهون آمنون تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار وتنكصون عند النزال ، وتفرون من القتال “[26] فما عليك الا ان تنظر الى المتقمصين زعامة الامة وترى قطعانهم ودور استراحتهم وعبيدهم والمتملقين حولهم من كل جانب حتى تعرف خساسة المعادلة وافتضاحها …. ومدى بعدهم عن خط الامامة…
ولا بد لنا من الأشارة الى موقعية الفقهاء من الإمامة كونهم هم الدالّين عليها ، في زمن الغيبة الكبرى ، وذلك ثابت بالأدلة العقلية والنقلية .
موقعية الفقهاء من الإمامة:
بما ان الإمامة نظاماً للملة ومصدر البركات على الأمة ، فلابد من وجود أمتداد يمثلها باعتبار ان مشيئة الله تعالى ارادت أخفاء الإمام المعصوم عن أنظار الأمة وان كانت انفاسه وتوفيقاته حاضرة في المجتمع ، ولكن بما ان الطبيعة الأنسانية تميل الى المحسوس فقد نبَّه أهل البيت “عليهم السلام” الى من يمثلهم ، ولم يكن هذا الدور مفاجئ في تأريخ التشيع بل مهَّد لهذا الدور الأئمة المعصومين “عليهم السلام” فكان لهم نواب ووكلاء بوجودهم في الأمة ، وتنامى ذلك الدور حتى ان الإمام الهادي والأمام العسكري “عليهما السلام” مارسا الأحتجاب الجزئي عن شيعتهم والتواصل معهم عن طريق الثقاة تمهيداً للمرحلة التي ستعيشها الأمة في زمن منقذ البشرية .
فكل هذه الأدوار أعطت الشرعية والأهمية للفقهاء ، وان الدور الأصلاحي في زمن الغيبة هم رواده على الدوام ، اما عداهم فمدّعون ، لان الفقهاء حصون الاسلام والأدلة كثيرة على نيابتهم للمعصوم “عليه السلام” من ذلك ما ورد عن الإمام المهدي “عجل الله فرجه” : (( وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله))([27]) ، وعن الإمام الصادق “عليه السلام” : ((فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلدوه))([28])، ومما ورد عن ابي عبد الله : ((إياكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا ، فتحاكموا إليه))([29])
وذكر العلماء ان للفقهاء ادواراً في زمن الغيبة وهي تتوزع على ثلاث مهام :([30])
الاولى : منصب حجية الفتوى ، أن فتوى الفقيه حجة على مقلديه.
الثانية : منصب القضاء قضائه نافذ على الناس.
الثالثة : منصب الولاية ، على الرغم من وجود آراء عند فقهاء الإمامية في سعة وضيق دائرة نيابة الامام ” عليه السلام” فبعض الفقهاء يرى الولاية خاصة بالأمور النظامية وبعض الفقهاء يرى الولاية عامة مطلقة ، فالسيد الخوئي مثلاً: كان يرى الولاية خاصة بالأمور النظامية، الإمام الخميني مثلاً يرى الولاية مطلقة عامة هذا اختلاف في سعة الولاية وضيقها المهم ان الجميع يقول بمنصب الولاية.
فدور الفقيه هو حفظ الشريعة ، دور الفقيه ليس بسيطاً ، دور خطير جداً مكلف بحفظ الشريعة على المستوى التشريعي والتعليمي والتطبيقي .
فعلى المستوى التشريعي : الفقيه مسؤول عن رقابة الفكر طول الوقت، والفقيه يراقب ما يُقال، ما يُطرح ، ما يتكلم به لماذا؟! حتى يكون حذر على حفظ الشريعة ألا يدخل فيها ليس منها، الفقيه في حال رقابة على الفكر، …. الفقيه رقيب على ما يطرح وما يقال وما يذكر حتى يقوم بمسؤوليته في حفظ الشريعة من الناحية التشريعية أن يحافظ على أصولها وثواباتها وقطعياتها([31]).
فقد ورد عن النبي “صلى الله عليه واله وسلم” : ” في كل خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجهال وإن أئمتكم وفدكم إلى الله فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم”[32] يعني دوره دور الرقابة
وعلى المستوى العلمي : من قبيل تأسيس الحوزات العلمية التي بدورها تجعل الفكر الإمامي متجدد مواكب لتطورات العصر والا اصبح فكراً متجمد ، فالحوزات العلمية تديره بين فترة وأخرى، فهذا حفظ للفكر الإمامي حفظ تعليمي قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾
اما على المستوى التطبيقي : فيكون من خلال مراقبة الفقيه لما يدور من احداث على ارض الواقع والافتاء في اتخاذ ما هو صحيح تجاه الحوادث والمتغيرات ، لكي لايقع عامة لناس في الاشكالات الشرعية والشبهات.
وقد أثبتت التجارب المعاصرة والسابقة منذ بداية زمن الغيبة للامام (ارواحنا لمقدمه الفداء) الدور الريادي الفاعل على مجريات الساحة والمواقف الاصلاحية الثابتة التي لايشوبها الشك ، التي جادت بها همم العلماء المصلحين ، فقد ثبَّت التأريخ اسماءهم ومواقفهم رغم أنوف الذين ارادوا طمس ذكرهم ، وكان لهم اسوة بالمنهج الاصلاحي العلوي فقد رغبوا عن الدنيا ولم يكن لهم همٌّ الا الإسلام ، وتجسيد مبادئه الحقة ، فالذي يطالع تأريخ بعض الافذاذ على سبيل المثال لا الحصر امثال السيد جمال الدين الافغاني مروراً بمحمد باقر الصدر والسيد الخميني ….. وغيرهم من الافذاذ الذين وقفوا بوجه الظلم الى ان تصل الى مواقف مرجعيتنا الرشيدة في العراق بل والعالم ، فلولا حكمة المرجعية واستمدادها من سيرة المعصوم ما بقى شيء اسمه العراق ، فهي كانت ولازالت صمام الأمان في الحفاظ على الوضع الداخلي فضلاً عن مواجهة اعتى تحدي معاصر على مستوى العالم اجمع ، والذي واجهته في فتوى الجهاد ضد داعش ، في ظل تخبط الساسة وفشلهم ، وشراهتهم في نهب خيرات الأمة ، الذين لم يختلفوا كثيراً عن حكّام بني العباس ، يعلنون الرضا من آل محمد ، ويتبعونهم ويقتلونهم تحت كل حجرٍ ومدر.
من خلال كل هذه المستويات التي يمارسها الفقيه يتبين مدى وحجم الدور الأصلاحي الذي يمارسه نواب الامام “عليه السلام” ، ونقول نواب الامام ، لاننا لانرى ان هناك ثمة فرق في أدوار الفقهاء ، فكل واحد منهم مكمل للآخر ولا يمكن الأستغناء عن جهد فقيه منهم ، أو تحييده اعلامياً عن الساحة العملية فمعنى هذا ومؤداه أن الأمة سوف تفقد جزءًا مهماً من الفكر ، ونعتقد ان سير الأمة بهذا الأتجاه –تحييد الفقهاء عن الساحة – هو جزء من الحرب التي يوجهها أعداء الأسلام الى قلب الأمة النابض ، وهو المرجعية الدينية… واليوم بدأ التحدي يبرز حتى من داخل الساحة الدينية ومحاولة ايهام الناس من قبل بعض المحسوبين على الأتجاه الديني بأن المرجعية ليست صاحبة قيادة ميدانية ، وكأن عمل الفقيه مقتصر على الفتوى وعند السؤال فقط وهذا من عظيم الخطر .
ويمكن من خلال هذه التحديات ان نستشف سر عظيم من أسرار القيام الفاطمي وأبراز مظاهره الخطبة الفدكية ، فأن الزهراء “عليها السلام” عندما انتفضت بوجه الطغاة وان كان الخطر الذي واجهته واقع في زمنها وضمن تكليفها ، الا اننا يمكن ان ندرك بدرجة عالية من الدرجات جملة من التساؤلات التي طرحناها في صدر البحث ، وهي لماذا الزهراء؟ ، ولماذا تلك المرأة بالذات وهي معصومة وتعيش في كنف المعصوم؟ ، لماذا تنذر حياتها في هذا الطريق مع وجود أُناس قد عاصروا النبي ” صلى الله عليه واله” وسمعوا حديثه ، وعلموا من هو الأحق بالإمامة ؟ ، وتبقى الأستفهامات قائمة في كل عصر ، لتنهل منها البشرية ، فيبدو لنا ان القيام الفاطمي هو درس ابدي للأجيال ، والتنبيه على الخطر المُحدق بها ، فكان قيامها بمنزلة الحفاظ على الإمامة وخطها وأمتدادها الى زمننا المعاصر وما بعده ، فهو استشراف لمستقبل الأمة ولما سيعصف بها من تحديات .
وبذلك تبقى الخطبة الفدكية موجّهة في زمننا ليس الى الحاكمين فقط ، بل هي اليوم أعمُّ من الحاكمين ، انها خطاب الى عامة الناس وبضمنهم الحاكم.
ثالثاً : الإبراز لإعلى جوانب التوحيد:
أعطت الزهراء “عليها السلام” في خطبتها الفدكية ، درساً بليغاً لاسترجاع الحقوق ، فالمتسالم ان صاحب الحق يباشر بالمطالبة بحقه مباشرة دون مقدمات وكما يُقال ان صاحب الحاجة أعمى ، لكن الزهراء منهجها إلهي ، فهي قد مهّدت الى استجلاب الحقوق بالتذكير بحمد الله وأظهار الوحدانية ، وهي أعلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأرقاها ، فأذا كان الحاكمون في غفلة عن توحيد الله عز وجل والأحساس بأنهم تحت حكم جبار السماوات والأرض ، اذا لم يستشعروا ذلك فأنى لهم انصاف الحقوق ووضعها في نصابها؟ !!.
لذلك ابتدأت الزهراء ” عليها السلام” حديثها بالقول : ” الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء بما قدم ، من عموم نعم ابتدأها ، وسبوغ آلاء أسداها ، وتمام منن أولاها ، جم عن الاحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أبدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ، وثنى بالندب إلى أمثالها ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمن القلوب موصولها ، وأنار في التفكر معقولها ، الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام كيفيته ……”[33]. وهنا تربي الزهراء “عليها السلام” الأمة الى توحيد الله وشكره على عظيم نعمه ، واختصاصه تعالى بذلك ، وفي ذلك شمول للمطالبين والحاكمين ، كي تكون النتائج راقية بِرُقي اصحابها ، فلا يتصور غير الموحد انه صاحب نتاج للبشرية ، دون أن يُعلق كل الأسباب التي تنطوي عليها النتائج بيد الله تبارك وتعالى ، وبأي نحوٍ كانت ما عليه الا التسليم لأنه تعالى فقط من يعرف حكمة الأشياء وعلتها ( ولعل الذي أبطأ عني هو خيرٌ لي لعلمك بعاقبة الأمور ) .
رابعاً : بيان آثار العبادات والمعاملات على سلوك الأنسان ونتائجها:
من الأبعاد التي تضمنتها الخطبة الفدكية هو بيانها لآثار العبادات والمعاملات على حياة الفرد ، وإنها من ضمن الأمور المهمة التي تُرشد الأنسان الى سلوك الصراط المستقيم ، فلا يمكن للأنسان الغارق في المعاصي والشبهات ان يهتدي الى طريق الامامة الحقة ، أو الدفاع عنها
فتقول الزهراء “عليهاالسلام” في سياق خطبتها : ” فجعل الله الإيمان : تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة : تنزيها لكم عن الكبر ، والزكاة : تزكية للنفس ، ونماء في الرزق ، والصيام : تثبيتا للاخلاص ، والحج : تشييدا للدين ، والعدل : تنسيقا للقلوب ، وطاعتنا : نظاما للملة ، وإمامتنا : أمانا للفرقة والجهاد : عزا للإسلام ، والصبر ، معونة على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف : مصلحة للعامة ، وبر الوالدين : وقاية من السخط ، وصلة الأرحام : منساة في العمر ومنماة للعدد ، والقصاص : حقنا للدماء ، والوفاء بالنذر : تعريضا للمغفرة ، وتوفية المكائيل والموازين : تغييرا للبخس ، والنهي عن شرب الخمر : تنزيها عن الرجس واجتناب القذف : حجابا عن اللعنة ، وترك السرقة : إيجابا بالعفة ، وحرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية ، فاتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء “[34] .
فياله من قيام عظيم وما حمل في ثناياه من ابعاد ، فهنا الزهراء البتول تعرض للأمة الآثار المترتبة على الفروض ، فكانت الآثار بشقين مادية ومعنوية ، فلو أُقيمت تلك الفروض على شروطها من التوجه والأخلاص لأثمرت ثِماراً عظيمة ولما وصل المجتمع الى ما وصل اليه في عهد الصديقة الطاهرة والى يومنا هذا … فعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنه قال : ” يا كميل لا تغتر بأقوام يصلون فيطيلون ، ويصومون فيداومون ، ويتصدقون فيحسبون أنهم موفقون . يا كميل أقسم بالله ، لسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، يقول : أن الشيطان إذا حمل قوماً على الفواحش ، مثل الزنا ، وشرب الخمر ، والربا ، وما أشبه ذلك من الخنا ، والمآثم ، حبب إليهم العبادة الشديدة ، والخشوع ، والركوع ، والخضوع ، والسجود ، ثم حملهم على ولاية الأئمة الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون . يا كميل ، ليس الشأن أن تصلي ، وتصوم ، وتتصدق ، [ إنما ] الشأن أن تكون الصلاة فعلت بقلب تقي وعمل عند الله مرضي ، وخشوع سوي ، وابقاء للجد فيها”[35].
المطلب الثالث : الحضارة والمدنية في سياق ومقدمات الخطبة الفدكية والنتائج الحتمية :
عندما عزمت الزهراء”عليها السلام” على مواجهة السلطة والمطالبة بالحقوق المسلوبة وذلك بالقاء خطبتها في مسجد رسول الله “صلى الله عليه واله وسلم” ، فقد وضعت “عليها السلام” أُسساً للمطالبة بالحقوق ، وهي عدم الأنفعال وخلط الحابل بالنابل ، مع العلم انها كانت قادرة على تحريك الشارع وتأليب الناس على السلطة الظالمة بحكم قربها من رسول الله “صلى الله عليه واله وسلم” ، مع ذلك خرجت بنفسها لتأدية هذا التكليف الشرعي ، الا انها ضربت مثالاً في العفاف والستر ، وهي بهذا السلوك تقول انه على المرأة ان لا تتخلى عن عفتها وحجابها مهما كانت الظُلامة ، ومهما كانت الحقوق المغتصبة ، فستر المرأة وعفافها أولى من كل ذلك … وهو استشراف للمستقبل وما سيواجه الأمة الأسلامية من تحديات من اعداءه ، والمؤلبين عليه ادعياء الحضارة والمدنية والمنادين بحقوق الانسان وحقوق المرأة بشكل خاص ، وما أعجب هؤلاء والمصدقين بهم من المتأسلمين ، فهذه القدوة للنساء والرجال وسيدة نساء العالمين مارست دورها الحضاري في عصر لا زالت فيه ثُلة من المنافقين الذين لم يستقر الأسلام في قلوبهم ، فمارست دورها الحضاري والمدني ، فأي حضارة ومدنية التي يتباكون عليها ، ولماذا هذا الطعن بالاسلام يأخذ مدياته في الوسط الأسلامي !!.
روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه عليهم السلام : ” إنه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة عليها السلام فدكا وبلغها ذلك لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ( جعلت الرداء والأزار شاملاً ) ، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها (اي انها في وسطهن فلا تُرى) تطأ ذيولها (أي أن أثوابها كانت طويلة تستر قدميها فكانت تطأها عند المشي) ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة (والملاءة الإزار) “[36].
فالذي يتأمل في هذا الوصف لخروج الزهراء “عليها السلام” للتظاهر ضد السلطة ، فلا عجب انه سوف يُذهل عن التفكر في تظاهرتها ، وسوف ينشغل ذهنه في تصور عفة الزهراء”عليها السلام” وسترها فمن لوث الخمار الى التجلبب بالرداء ، ثم ان النساء تحيطها ، اي لا يراها أحد ومع ذلك تطأ ذيولها !! ، فضلأً عن الشمائل المحمدية التي تجسدت في مشيتها .
فالمرأة اليوم عندما تُريد المشاركة في المطالبة بالحقوق المشروعه ما عليها الا أن تتأمل في هذا القيام الفاطمي وأسلوبه ، أما اذا أصبحت المرأة بضاعة لجلب أكثر عدد من المطالبين بالحقوق !! فحينئذٍ على تلك النسوة والمطالبين وعلى الحقوق المغتصبة السلام.
ان الزهراء “عليها السلام” رغم قيامها بالأمر وخطبتها الفدكية في مسجد النبي “صلى الله عليه واله وسلم” وبحضور القوم ، كانت تعرف ما عزموا عليه ، وأنهم قد استحوذ عليهم الشيطان لكنها ، أرادت إلقاء الحجة الدامغة عليهم وعلى الأمة وهذه الحجة ممتدة الى كل زمان ومكان ، وقد صرَّحت الزهراء “عليها السلام” بما كانت عليه السلطة ، ومعرفتها حق المعرفة أن القوم لن يُذعنوا لمطالبها ، بل وأشد من ذلك وهو استشهادها على يد تلك الطخمة الحاكمة ، فعادة الحُكَّام انهم يغتالون من يرونه منافساً لهم بحساباتهم الدنيوية ، سواء أكان الأغتيال مادياُ أم معنوياً ، وقد تعرضت الزهراء “عليها السلام” لكليهما.
فصرّحت “عليها السلام” بحقيقة هؤلاء عندما قالت : “ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة التي خامرتكم ( خالطتكم ) والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنها فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وخور القناة وبثة الصدر ، وتقدمة الحجة ، فدونكموها فاحتقبوها دبرة ( أحملوها على ظهوركم ) الظهر نقبة الخف باقية العار ، موسومة بغضب الجبار ، وشنار الأبد ، موصولة بنار الله الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة ، فبعين الله ما تفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي مقلب ينقلبون . وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنا عاملون ، وانتظروا إنا منتظرون”[37].
فتصور القوم ان التصفية الجسدية لبضعة الرسول “صلى الله عليه واله وسلم” ستُخلّصهم من فضيحة الأنقلاب على الأعقاب ، الا ان شهادة الزهراء “عليها السلام” كانت الضربة الأشد للظالمين ، وهي المعادلة التي أثبتها آل بيت رسول الله “صلى الله عليه واله وسلم” ومن سار على نهجهم على طول الخط ان الدماء التي تُراق ظلماً هي التي تهز عروش الظالمين وهي التي ستنتصر .
ان دور الزهراء ” عليها السلام” في الدفاع عن الإمامة من خلال التظاهر ضد السلطة الغاصبة للحقوق تضمن جوانب عظيمة في تربية الأمة تربية صحيحة فقد تضمن الخروج الفاطمي جملة من الامور _ قمنا بذكرها كالتوحيد والصوم والصلاة … وهذه الامور تُعطي لهذا القيام قيمة حضارية عظمى ، ولو تتبعنا اليوم تأريخ الشعوب الاسلامية منها أو الغربية على أمتداد عصورها لم نجد قياماً للمطالبة بالحقوق أكثر حضارية من القيام الفاطمي ، فقد اشتمل على ابعاد أخلاقية ودينية وسياسية و…. قل نظيرها ، وان ما نراه من ثورات الشعوب في أغلبه يحمل الطابع المادي لنيل الحقوق وتوفير العمل ولقمة العيش ، وان كانت هذه المطالب مشروعة ومهمة للأنسان ولا ينبغي السكوت عنها ، وينبغي القيام بوجه الحاكمين الذي استأثروا بأموال البلاد والعباد.
فنجد السيدة الزهراء”عليها السلام” تركز على جذور الاصلاح ونيل الحقوق فأذا لم تُطُبّق القيم العبادية والمعاملاتية والأخلاقية التي استقيناها من القيام الفاطمي والتي ذكرناها اعلاه ، فسيبقى امر الاصلاح وارجاع الحقوق الى مستحقيها أمراً شكلياً يزول بفترة وجيزة .
او قد يُكرّس بعض الوصوليين تلك المبادئ السامية لنيل مرادهم والتربع على ثروات الناس فمتى ما تمكنوا ضربوا الناس عرض الجدار ، وهذا ثابت في التأريخ القديم والمعاصر كبني العباس الذين كان شعارهم (الرضا من ال محمد) وعصرنا الحديث غني بالامثلة وما عليك الا ان تتأمل دقيقة واحدة في تأريخ العراق المعاصر…ايضاً السيدة الزهراء “عليها السلام” تقطع الطريق على هكذا صنف من المنافقين ، وذلك بأعطاءها وصفاً دقيقاً لمن يتولى أمر الأمة في اشارة الى أمير المؤمنين “عليه السلام” فقالت : ” فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله ، وبعد أن مني ببهم (شجعانهم)الرجال وذؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، أو نجم قرن الشيطان ( امة الشيطان وتابعوه) أو فغرت فاغرة من المشركين ( الطائفة منهم ) قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه ويخمد لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله ، سيدا في أولياء الله ، مشمرا ناصحا ، مجدا ، كادحا ، لا تأخذه في الله لومة لائم “[38] ، وهذا ليس وصف لعلي “عليه السلام” فحسب بل هو منهجه الالهي الذي يقتدي به السائرون على طريقه .
ثم تُعطي “عليها السلام” مواصفات الضد وهم المتقمصون لزعامة الأمة بالادعاءات والشعارات البراقة ، فتقول “عليها السلام” في وصف حالهم : “….وأنتم في رفاهية من العيش ، وادعون فاكهون آمنون ، تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار وتنكصون عند النزال ، وتفرون من القتال “[39] ، فمن انطبق عليه الوصف الأول فهو سائر على نهج امير المؤمنين “عليه السلام” ، ومن انطبق عليه الوصف الآخر فهو المنافق بعينه ، وما أكثرهم اليوم!!.
لذلك ان النكته العظيمة والسر العظيم الذي هو من اسرار القيام الفاطمي هو طرح التربية الصحيحة على الأمة بين التذكير بشواهد طبقها النبي “صلى الله عليه واله وسلم” في صلاح الأمة وبين التأكيد على تطبيقهم لتلك التعاليم الاسلامية ، وحتمية تطبيقها .
ولا بد من نقطة مهمة اشارت اليها السيدة الزهراء عليها السلام (وجعل امامتنا نظاماً للملة ) فهي تطرح الإمامة اذا نظرنا الى هذه العبارة بمنظور معاصر تطرحها كأفضل نظام على الأرض ، فلو نظرنا اليوم الى ما يحدث في العالم من فوضى سياسية لأنتبهنا الى عظيم النعمة التي فرّطنا بها بدرجة كبيرة ، فالشعوب اليوم تعاني من انعدام الثقة مع رؤوسائها لأن الشعب ينتخب ثم يُجرب تلك الشخصيات بوفائها من عدمه والأعم الأغلب ان النتائج سلبية في حين النظام الأسلامي العلوي يوفر لك القيادة الصالحة التي لا وجود للدنيا في حساباتها وما على الأمة الا السير بهديها ، ولذلك أشترط بعض الفقهاء في تطبيق ولاية الفقيه على الأمة هي مبايعة الناس وانتخابها للقيادة الدينية لتكون حجة على القيادة الدينية من ممارسة تكليفها الشرعي ، مستمدين هذا الموقف من مبايعة الناس لأمير المؤمنين عليه السلام بعد ما لاقت الأمة الويلات من سوء تصرفها وخذلانها للخلافة الربانية وهو القائل (حتى شُق عطفاي ووطئ الحسنين) .
فلا يتصور واهم ان الإمامة هي تأريخ اسلامي انتهى زمنه أو أنه أصل من أصول الدين وكفى ، وعلينا ان ننتظر الأرض حتى تمتلئ ظلماً وجوراً لكي نحظى بالفرج !! ، فهذا من عوق الفكر وسخف القول ، بل إن قضية الإمامة وبصريح القيام الفاطمي هي واقع لا بد ان تسير على خطاه الأجيال فمتى ما تمسكت الأمة بالإمامة فعلاً ، لا قولاً فحسب ، وبحثت عن امتدادها على مرّ العصور ، فبطبيعة الحال سوف تنجوا الأمة مما يداهمها من أخطار ، ومتى ما ضيّعت الطريق كثرت الفتن وكثر المدّعون لقيادتها ظلماً وزوراً ، وزبدة القول ان كثرة المعاصي والأنحرافات والويلات في المجتمع انما هو بسبب الميل عن خط الامامة.
النتائج والتوصيات
المصادر
القرآن الكريم
([1]) علل الشرائع ، الصدوق :183.
([2]) الأسرار الفاطمية ، محمد فاضل المسعودي: 97.
([3]) موسوعة أحاديث أهل البيت ( ع ) , الشيخ هادي النجفي:1/190.
([4]) الأسرار الفاطمية ، محمد فاضل المسعودي: 97.
([5]) مجمع النورين ، ابو الحسن المرندي :14. والاسرار الفاطمية ، فاضل المسعودي:18.
([8]) بحار الأنوار , العلامة المجلسي:8/52.
([9]) صحيح البخاري ، البخاري:4/210.
([10]) صحيح مسلم , مسلم النيسابوري:7/141.
([11]) الغدير , الشيخ الأميني:3/180.
([12]) الخصال ، الشيخ الصدوق:206.
([14]) ينظر: مقامات الزهراء (ع) في الكتاب والسنة ، محمد السند: 19.
([15]) الكافي ، الشيخ الكليني:1/168.
([16]) مقامات فاطمة الزهراء في الكتاب والسنة ، محمد السند :20.
([17]) الإمامة الإلهية , تقرير بحث الشيخ محمد السند لسيد بحر العلوم:2-3/517.
[18] ينظر : مذكرات مستر همفر ، نقله الى العربية د.ج ، خ : 1.
[19] مذكرات مستر همفر :6.
[20] ينظر : مذكرات مستر همفر :6.
[21] مذكرات مستر همفر:6.
[22] مذكرات مستر همفر:6.
[23] ينظر : مذكرات مستر همفر:7.
[24] مذكرات مستر همفر:9.
[25] مذكرات مستر همفر:10.
[26] بحار الأنوار ، المجلسي :29/224.
([27]) وسائل لشيعة ، الحر العاملي: 27/140.
([28]) مستدرك سفينة البحار ، الشيخ علي النمازي الشاهرودي: 8/286.
([29]) السرائر ، ابن إدريس الحلي:3/539.
([30]) ينظر : دور المرجعية في عصر الغيبة – السيد منير الخباز – شبكة المنير.
([31]) دور المرجعية في عصر الغيبة – السيد منير الخباز – شبكة المنير.
[32] (بحار الانوار ، العلامة المجلسي:23/30.
[33] الأحتجاج :1/133.
[34] الأحتجاج :1/134.
[35] مستدرك الوسائل ، ميرزا حسين النوري الطبرسي :4/95.
[36] الاحتجاج ، الطبرسي: 1/132.
[37] الأحتجاج ، الطبرسي :1/141.
[38] الاحتجاج :1/136.
[39] الاحتجاج :1/136.