ان الحديث عن تظلم فاطمة سلام الله عليها حديث ذو شجون ، لا ينتهي الكلام فيه ، ولا يمكن اتيان جديد فيه. فالمصادر التاريخية قديمها وحديثها تؤكد على ظلامة الزهراء ، هذه المرأة العظيمة ، وما لقيته بعد وفاة والدها النبي الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من احن ومحن ، وتعرضت لكثير من الويلات والمصائب التي يشيب لهولها الزمان ، ابتداءً من ترك وصية والدها ، ومروراً بغصب الخلافة من زوجها ، وانتهاءً بقضية فدك ، مما ادى الى تراكم الهموم والهواجس عليها .
لقد ذكر ابن قتيبة في كتابه ( الامامة والسياسة ) ما هذا نصه : ( ان ابا بكر رضي الله عنه تفقد قوماً تخلفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه ، فبعث اليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار علي فأبوا ان يخرجوا فدعا بالحطيب وقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجن او لأحرقنها على ما فيها فقيل له يا ابا حفص ان فيها فاطمة فقال : وان . فخرجوا فبايعوا الا علياً فانه زعم انه قال : حلفت ان لا اخرج ولا اضع ثوبي على عاتقي حتى اجمع القرآن ، فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا وأسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جنازة بين ايدينا وقطعتم امركم بينكم لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقاً … ) الى ان يصل قوله : ( … ثم قام عمر ومشى معه جماعة اتوا باب فاطمة فدقوا الباب ، فلما سمعت اصواتهم ، نادت بأعلى صوتها : يا ابت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن ابي قحافة ، فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين (1) .
الذي يهمني ان اؤكده هنا هو ان الزهراء سلام الله عليها هي التي خرجت لمنع القوم عن اخراج علي عليه السلام وذلك لعظم منزلتها وعلو شأنها ، لانها بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وان ما يدل على ذلك قول عمر بن الخطاب عندما اراد ان يأتي الى باب دار فاطمة ، قال : اريد ان احرق الدار ومن فيها ، قالوا ان في الدار فاطمة قال : وان . ويحسن ان انّبه الى ان هذا الموقف قد قام على اساس التحدي ومواجهة اهل البيت الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( الا واني مخلف فيكم الثـقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا ) ، مما يدل على ان الرجل خالف كتاب الله وسنة نبيه في هذا التحدي السافر والاعتداء على بيت الزهراء سلام الله عليها . وبناءً على ذلك اشار الى هذا المضمون شاعر النيل حافظ ابراهيم بقوله :
وقـولـة لعـلـي قالها عمرُ اكـرم بسـامـعها اعظم بملقيها حرقت دارك لا ابقى عليك بها ان لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير ابي حفص يفوه بها امام فـارس عدنـان وحاميهـا
وفي كتاب ( عوالم سيدة النساء فاطمة الزهراء سلام الله علیها) توضيح لهذا المشهد، قال : فلما رأى علي عليه السلام غدرهم وقلة وفائهم لزم بيته ، وكان علي بن ابي طالب عليه السلام لما راى خذلان الناس له وتركهم نصرته واجتماع كلمة الناس مع ابي بكر وطاعتهم له وتعظيمهم له جلس في بيته . فقال عمر لابي بكر : ما يمنعك ان تبعث اليه فيبايع فانه لم يبق احد الا وقد بايع غيره وغير هؤلاء الاربعة معه ، وكان ابو بكر ارق الرجلين وارفقهما وادهاهما وابعدهما غوراً ، والاخر افظهما واغلظهما واخشنهما واجناهما ، فقال : من نرسل اليه ؟ فقال عمر : ارسل اليه قنفذاً ، وكان رجلاً فظاً غليظاً جافياً من الطلقاء احد بني تيم ، فأرسله وارسل معه اعواناً فانطلق فأستأذن فأبى علي عليه السلام ان يأذن له ، فرجع اصحاب قنفذ الى ابي بكر وهما في المسجد والناس حولهما ، فقالوا : لم يأذن لنا ، فقال عمر : هو ان اذن لكم والا فادخلوا عليه بغير اذنه ، فانطلقوا فاستأذنوا فقالت فاطمة عليها السلام : احرّج عليكم ان تدخلوا بيتي بغير اذن . فرجعوا فثبت قنفذ ، فقالوا : ان فاطمة قالت كذا وكذا فحرجتنا ان ندخل عليها البيت بغير اذن منها ،فغضب عمر ؛ مالنا وللنساء ، ثم امر اناساً حوله فحملوا حطباً وحمل معهم فجعلوه حول منزله وفيه علي وفاطمة وابناهما ، ثم نادى عمر حتى اسمع علياً والله لتخرجن ولتبايعن خليفة رسول الله او لأضرمن عليك بيتك ناراً ثم رجع فقعد الى ابي بكر وهو يخاف ان يخرج علي بسيفه لما قد عرف عن بأسه وشدته . ثم قال : قنفذ ان خرج والا فاقتحم عليه فان امتنع فاضرم عليهم بيتهم ناراً . فانطلق قنفذ فاقتحم هو واصحابه بغير اذن وبادر علي الى سيفه ليأخذه فسبقوه اليه فتناول بعض سيوفهم فكثروا عليه فضبطوه والقوا في عنقه حبلاً اسود ، وحالت فاطمة عليها السلام بين زوجها وبينهم عند باب البيت فضربها قنفذ بالسوط على عضدها فبقي اثره في عضدها من ذلك الدملج من ضرب قنفذ اياها فأرسل ابو بكر الى قنفذ اضربها . فالجأها الى عضادة باب بيتها فدفعها فكسر ضلعاً من جنبها والقت جنيناً من بطنها ، فلم تزل صاحية في الفراش حتى ماتت من ذلك شهيدة صلوات الله عليها (2) .
وقال في موضع آخر : فلما انتهيا الى الباب فرأتهم فاطمة صلوات الله عليها اغلقت الباب في وجوههم وهي لا تشك ان لا يدخل عليها الا باذنها فضرب عمر الباب برجله فكسره وكان من سعف ثم دخلوا فاخرجوا علياً ملبياً ، فخرجت فاطمة فقالت : يا ابا بكر اتريد ان ترملني من زوجي ـ والله ـ لئن لم تكف عنه لانشرن شعري ولاشقن جيبي ولآتين قبر ابي ولأصيحن الى ربي (3) .
وقال ايضاً : فلما بلغ عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال : وايم الله ما ذاك بمانعي ان اجتمع هؤلاء النفر عندك ان امر بهم ان يحرق عليهم البيت ، قال : فلما خرج عمر جاؤوها ، فقالت : تعلمون ان عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت وايم الله ليمضين لما حلف عليه (4) .
وقد وردت في هذا الخصوص اشعار كثيرة ، منها ارجوزة للسيد مهدي القزويني حيث قال :
يا عجبـا يستـأذن الامـيـن قال سليـمُ قلـت يا سـلمـان قال بـلـى وعـزة الجـبـار لكـنـهـا لاذت وراء البـاب ومذ رأوها عصروها عصـرة فأسقطـت بنت الهـدى واحزنا تصيـح يـا فضـة اسندينـي عليـهـم ويهجـم الـخـؤون هل دخلـوا ولم يـك استئـذان ليـس على الزهـراء من خمار رعـايـة للستـر والحجـاب كادت بنفسي ان تموت حسـرة جنينهـا ذاك المسمى محسنـا فقد وربـي اسقطـوا جنينـي
وقول المتغمد بالرحمة السيد باقر الهندي :
كل عـذر وقول افـك وزور فتبصّرْ تبصر هداك الى الحق ليس تعمى العيون لكنما تعمى هو فرع عن جحد نص الغدير فليـس الاعمـى به كالبصيـر القلوب التي انطوت في الصدور
الى ان يصل قوله :
او تدري لم احرقوا البـاب بالنـار او تدري ما صدر فاطمة ما المسمار ما سقوط الجنيـن ما حمرة العيـن دخلوا الدار وهي حسرى لمرأى من ارادوا اطفاء ذاك النور ؟ ما بال ضلعها المكسور ؟ وما بال قرطها المنثور ؟ علي ذاك الابي الغيور .
وقول الشاعر الحاج جواد بدقت الاسدي :
وبكسر ذاك الضلع رضت اضلع وكما (علـي ) قـوده بنجـاده وكما (لفاطـمه) رنة من خلفـه وبزجرها بسياط قنفذ وشحـت في طيها سرُّ الاله مصونُ فله (علي) بالوثاق قريـن لبناتها خلف العليـل رنين بالطف في زجر لهن متون
وقول الشاعر الشيخ محسن ابو الحب الكعبي المتوفى سنة 1305 هـ :
هزي لنخلتهـا ألتجت فتساقطـت ولدى الجدار وعتبة الباب ألتجت رطباً جنياً فهـي منه تـأكـل بنت النبي واسقطت ما تحمـل
هذا غيض من فيض ما قاله الادباء بخصوص ظلامة الزهراء سلام الله عليها . وهذا هو شأن المخلصين لله تعالى في حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عترته من بعده ، يعظمون شعائر الله تعالى ، ولا سيما فاطمة الزهراء عليها السلام ذلك النموذج الامثل للاسرة المسلمة .
———————————————————————————————-
(1) الامامة والسياسة / ابن قتيبة / ص 12 و 13 .
(2) عوالم سيدة النساء فاطمة الزهراء / الشيخ عبد الله البحراني الاصفهاني / ص 557 و 558 .
(3) المصدر السابق / ص 560 .
(4) المصدر السابق / ص 562 و 563 .