فما هي الحكمة ـ يا ترى ـ في ان تشاء الإرادة الإلهية أن تكون ذرية الرسول صلى الله عليه وآله منطلقة من ريحانته الزهراء عليها السلام ؟
أن هذه الحكمة تتضح لنا اذا ما عرفنا أن المرأة التي أصبحت في أحيان كثيرة عرضة للاستضعاف والاستغلال وسلب حريتها وكرامتها ، هي أحوج ما تكون الى من تقتدي بها في سلوكها وتصرفاتها في نطاق المجتمع والأسرة ، لتكون هذه القدوة هي المدافعة عن حقوقها وكرامتها من الإجحاف والتطاول ، ولتبثّ في النسوة كافة المعنوية العالية ، والثقة بالنفس للدفاع عن كرامتهن ، والمطالبة بحقوقهن ، واستنكار الانحراف والاعوجاج في التعامل الاجتماعي معهنّ ، وخصوصا فيما يتعلق باستبداد الرجال واستضعافهم لهنّ .
فلو تعرضت المرأة للظلم الاجتماعي ولم يكن بمقدور أي احد ان يطالب بحقوقها لأسباب قاهرة ، فما الذي تصنعه المرأة في هذه الحالة ، وكيف تواجه هذا الظلم والإجحاف ، وهل تتخذ موقف السكوت والصمت فتتنازل وتتراجع وتستسلم للهزيمة ؟
أن ذلك لا يمكن مادامت هناك فاطمة في التأريخ تتحدّى ، وتقف في وجه الانحراف والظلم . فهي القدوة التي وقفت تطالب بحقها ، لا طمعا فيه ، بل لأنه حق يجب أن لا تسكت عنه . وفي نفس الوقت فان مطالبتها هذه هي درس لكل الأجيال ، وخصوصا الشطر النسوي من المجتمع بأن لا يسكتن عن المطالبة بالحق ، وتحقيق العدالة عندما ترتكب المظالم ، وتسحق الكرامات .
فالزهراء عليها السلام نزلت الى الساحة السياسية ودافعت عن حقها الذي كان ينطوي في حقيقته على الدفاع عن الإمامة ، والتراث النبوي ، وأولوية أهل بيت العصمة عليهم السلام في الإمساك بزمام أمور الأمة .
والمهم في قضية الزهراء عليها السلام تصدّيها بنفسها للدفاع عن الحق ، حيث ان هذا الدفاع يمثل في حد ذاته قيمة إلهية ، ولاسيّما عندما تنطلق صرخات الاحتجاج والمعارضة من فم امرأة مظلومة كفاطمة .
ومن ذلك كله تتجلى أمامنا الحكمة الإلهية التي اقتضت أن تكون الصديقة الطاهرة عليها السلام هي العقب الطاهر ، والامتداد الكريم لرسول رب العالمين . فقد شاء الله تبارك وتعالى أن يمنّ على البشرية في آخر عهد من عهود الرسالات الإلهية برجل فوق كل الرجال سموّاً وعلوّاً وأخلاقاً رفيعة ، وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله؛ وبامرأة هي سيدة نساء أهل الدنيا والآخرة ، ورثت علم النبوة والرسالة من أبيها ، فكانت المدافعة عن تراثه صلى الله عليه وآله حتى آخر رمق من حياتها الشريفة .
وهكذا لم يكن من اللهو والعبث أو العاطفة الأبوية المحضة قوله صلى الله عليه وآله : ” فاطمة ؛ أم أبيها ” 16 ، وحاشاه من ذلك وهو كما قال تعالى : ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ 17 ، فقوله ذلك وقوله الآخر الذي اجمع عليه أهل القبلة كما في موسوعة بحار الأنوار : ” الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ” 18 .لم يصدرا منه اعتباطا ، بل هما تأكيد على الامتداد والبقاء الرسالي في فاطمة وعلي والذرية الطاهرة من أبناء الحسين عليهم السلام أجمعين .
وهذه الأحاديث وغيرها تعني ان قيم ومفاهيم وتعاليم الإسلام وتشريعاته كادت ان تمحى لولا الجهود التي بذلتها فاطمة الزهراء عليها السلام ، ولولا تصدّيها ، وهدير خطبتها التاريخية في نساء الأنصار عندما وضعت النقاط على الحروف ، وأبانت الحقائق لكل ذي لبّ .
وهكذا فمن أجل أن تدفع المرأة عن نفسها التردي والابتذال الرخيص اللذين ابتليت بهما في العصر الراهن ، فانها لابد لها ان تدافع عن نفسها ، وتستنكر التيارات الجاهلية التي تستهدف النيل من عفّتها وكرامتها ، وذلك من خلال الاقتداء بالزهراء عليها السلام المرشدة والمعلمة الأولى لكل نساء العالم وعلى امتداد التأريخ . فقد علّمت هذه المرأة العظيمة النساء درس العفاف ، وصيانة الشرف والكرامة ، وحذّرتهن من الوقوع في شرك الشهوات الرخيصة ، وسدّت عليهن عبر سيرتها المباركة أبسط منفذ من الممكن ان يؤدي بهنّ الى الانحطاط والابتذال . . فدعت المرأة الى ان تحفظ كرامتها وعزّتها ، وتصون استقلالها وشخصيتها ، وان لا ترتضي لنفسها ان تكون دمية واداة بيد طلاّب الشهوات ، وحذّرتها من التبرج والتهتك المؤديين الى الانحلال والفساد والانحطاط الأخلاقي .