مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
194. يومَ يَوَدُّ الخَلقُ.. لو كَانوا فَاطِمِيِّين! /بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
+ = -

194. يومَ يَوَدُّ الخَلقُ.. لو كَانوا فَاطِمِيِّين!

بسم الله الرحمن الرحيم

إِلَهِي.. إِذَا جِئْنَاكَ:

1. عُرَاةً! حُفَاةً! مُغْبَرَّةً مِنْ ثَرَى الْأَجْدَاثِ رُءُوسُنَا!

2. وَشَاحِبَةً مِنْ تُرَابِ المَلَاحِيدِ وُجُوهُنَا!

3. وَخَاشِعَةً مِنْ أَفْزَاعِ الْقِيَامَةِ أَبْصَارُنَا!

4. وَذَابِلَةً مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ شِفَاهُنَا!

5. وَجَائِعَةً لِطُولِ المُقَامِ بُطُونُنَا!

6. وَبَادِيَةً هُنَالِكَ لِلْعُيُونِ سَوْءَاتُنَا! …

فَلَا تُضَعِّفِ المَصَائِبَ عَلَيْنَا بِإِعْرَاضِ وَجْهِكَ عَنَّا! (البلد الأمين ص314).

هذه فقراتٌ تُنقَلُ عن أمير المؤمنين عليه السلام، يُعطي فيها دروساً للعُصاة، الذين قابلوا نِعَمَ الله تعالى بالكُفران، وإحسانه بالإساءة، وإقباله بالإدبار.

يصفُ فيها عليه السلام حالَ العباد يوم القيامة.. وفي كلِّ كلمةٍ منها ما تقشعرُّ له الأبدان.. ويستدعي التأمُّل مليّاً، سيَّما من أهل التمرُّد والعصيان على الله تعالى.

نقفُ هنا عند كلمةٍ واحدةٍ.. وهي أوَّلُ كلماته عليه السلام، حيث يجيء الناس يومَ القيامة (عُرَاةً) كما يقول عليه السلام.

إنَّ تَصَوُّرَ الأمر مُرعبٌ عند أهل الحياء والعفَّة، فهل يُعقلُ أن يأتي الحييُّ المستور في الدُّنيا مُجرَّداً يوم القيامة أمام الأشهاد؟!

إنَّ الغبرة والشحوب والخضوع والذبول والجوع والعطش في ذلك اليوم ليس كما نعهده في هذه الأيام، لكن رغم ذلك لا يخشى الإنسانُ منه خشيته من ظهور سوءته وانكشافه أمام العباد!

لقد روي عن الباقر عليه السلام: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ الله النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَهُمْ حُفَاةٌ عُرَاةٌ، فَيُوقَفُونَ فِي المَحْشَرِ حَتَّى يَعْرَقُوا عَرَقاً شَدِيداً، وَتَشْتَدُّ أَنْفَاسُهُمْ، فَيَمْكُثُونَ فِي ذَلِكَ خَمْسِينَ عَاماً، وَهُوَ قَوْلُ الله: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً﴾ (تفسير القمي ج‏2 ص64).

ليس العجبُ مِن خفوت صوتِهم وكلامهم همساً، بل العجبُ من صدور الكلام منهم وهم في ذلك الموقف المهيب!

يعلمُ الله سببَ تعرُّقهم واشتداد أنفاسهم، هل هو فقدان الساتر؟ أم هيبة الاجتماع العظيم؟ أم الوقوف بين يدي الرحمان؟ أم غير ذلك؟

لكنَّ تصوُّر المشهد بنفسه يبعثُ على الاضطراب والقلق، بل على الخوف والرُّعب!

لقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله مثل هذا المعنى، وقد بيَّنَ صلى الله عليه وآله أنَّ العرق يبلغ شحوم الآذان! أي أنَّ الناس تكادُ تغرقُ في عَرَقِها ذلك اليوم!

حينها: قَالَتْ سَوْدَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله: ..يَا رَسُولَ الله، صَلَّى الله عَلَيْكَ، وَا سَوْأَتَاهْ! يَنْظُرُ بَعْضُنَا بَعْضاً؟!

فَقَالَ: شُغِلَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه‏﴾ (مجموعة ورام ج‏1 ص294).

إنَّ حال الناس حينها يمنعُ بعضَهم من النَّظَر إلى بعض، فمنهم مَن يكون مسحوقاً على وجهه، ومنهم مَن يوطأ بالأقدام، ومنهم من يُصلَبُ على شفير النار حتى يفرغ الناس من الحساب، فأنّى لهم أن يشتغلوا بالنظر؟! (عدة الداعي ص175).

لكنَّ المؤمنَ العفيف الستِّير الخجول يستحي حتى من ذلك، فكيف يُتَصَوَّرُ أن يكون على تلك الحال؟!

تكشفُ نصوصُ آل محمدٍ عليهم السلام أنَّ المؤمنَ الموالي لعليٍّ عليه السلام وفاطمة عليها السلام يكون مستوراً، آمناً حين يخاف الناس.

فمِنَ النّاس مَن يُجدِّدُ الله تعالى كفنه بعد البلى فيستره به، فقد روي عن الصادق عليه السلام: بَلْ يُحْشَرُونَ فِي أَكْفَانِهِمْ.. إِنَّ الَّذِي أَحْيَا أَبْدَانَهُمْ جَدَّدَ أَكْفَانَهُمْ (الإحتجاج على أهل اللجاج للطبرسي ج‏2 ص350).

ومِنهم مَن يستره الله تعالى بالنور، فعن النبي صلى الله عليه وآله يُسْتَرُ عَوْرَةُ المُؤْمِنِينَ، وَتَبْدُو عَوْرَةُ الْكَافِرِين.

وأنّ الذي يسترهم: نُورٌ يَتَلَأْلَأُ لَا يُبْصِرُونَ أَجْسَادَهُمْ مِنَ النُّور (جامع الأخبار ص175).

إنَّ الميزان في ذلك هو ولاية عليٍّ عليه السلام، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله: يُحْشَرُ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً إِلَّا شِيعَةَ عَلِيٍّ (بحار الأنوار ج‏65 ص77).

وشيعة عليٍّ عليه السلام ليسوا إلا شيعة فاطمة عليها السلام، حيثُ سيكون لهم موقفٌ يومَ القيامة، يَظهرُ فيه فضلُهم عند الله تعالى، حتى يتمنى كلُّ الخلق لو كانوا منهم!

ففي الحديث الشريف أن فاطمة عليها السلام تأتي وقد لبست حُلَلاً من نورٍ أتاها بها إسرافيل، وركبت نجيبةً من نور، ثمَّ تستقبلها مريم بنت عمران، وأمُّها خديجة بنت خويلد، وحواء، وآسية بنت مزاحم، وبين يديها عليها السلام ويدي كلِّ واحدة منهنَّ سبعون ألف حوراء.. ثمَّ يُنصبُ لها منبرٌ من نور.

تطلبُ الزَّهراءُ حينها أن ترى حسناً وحُسيناً! فيأتيانها: وَأَوْدَاجُ الحُسَيْنِ تَشْخُبُ دَماً، وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ خُذْ لِيَ اليَوْمَ حَقِّي مِمَّنْ ظَلَمَنِي.

فَيَغْضَبُ عِنْدَ ذَلِكِ الجَلِيلُ، وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِ جَهَنَّمُ وَالمَلَائِكَةُ أَجْمَعُونَ، فَتَزْفِرُ جَهَنَّمُ عِنْدَ ذَلِكِ زَفْرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ فَوْجٌ مِنَ النَّارِ فَيَلْتَقِطُ قَتَلَةَ الحُسَيْنِ وَأَبْنَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَ أَبْنَائِهِمْ.. فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ عَلَى أَوْلِيَاءِ الحُسَيْنِ مِنْ آبَائِهِم..

في هذا الموقف المَهيب يخاطبُ جبرائيل فاطمة عليها السلام ليقول لها: سَلِي حَاجَتَكِ.

فتقول: يَا رَبِّ شِيعَتِي..

فيغفرُ اللهلهم.. ثمَّ تطلب المغفرة لشيعة وُلدها.. فيغفر الله لهم.. ثمَّ تطلب المغفرة لشيعة شيعتها..

فَيَقُولُ الله: انْطَلِقِي، فَمَنِ اعْتَصَمَ بِكِ فَهُوَ مَعَكِ فِي الجَنَّةِ!

فَعِنْدَ ذَلِكِ يَوَدُّ الخَلَائِقُ أَنَّهُمْ كَانُوا فَاطِمِيِّينَ!

فتسيرُ ومعها شيعتها وشيعة وُلدِها وشيعة أمير المؤمنين: آمِنَةً رَوْعَاتُهُمْ مَسْتُورَةً عَوْرَاتُهُمْ، قَدْ ذَهَبَتْ عَنْهُمُ الشَّدَائِدُ وَسَهُلَتْ لَهُمُ المَوَارِدُ، يَخَافُ النَّاسُ وَهُمْ لَا يَخَافُونَ، وَيَظْمَأُ النَّاسُ وَهُمْ لَا يَظْمَئُونَ (تفسير فرات الكوفي ص446).

حينما يُوقَفُ الناس يوم القيامة يكون شيعتها عليها السلام قد جلسوا على موائد من جوهرٍ، على أعمدةٍ من نور، يأكلون منها والناس في الحساب.

أفلا يودُّ الخلائق لو كانوا فاطميين؟!

إنَّ في مُشايعتها نجاةً للعبد من أن يجوع ويعرى يوم القيامة.. ونجاةً من الفزع والخوف يوم الحساب.. وفوزاً بكرامة الله ورحمته.

ولكن..

هَل يُكتفى في ولايتها بلقلقة اللِّسان؟

يقول الصادق عليه السلام: مَعَاشِرَ الشِّيعَةِ، كُونُوا لَنَا زَيْناً، وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْناً، قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، احْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ وَكُفُّوهَا عَنِ الْفُضُولِ وَقَبِيحِ الْقَوْلِ (الأمالي للصدوق ص400).

ينبغي على مَن يريدُ الاعتصام بفاطمة يوم القيامة أن يكون لها زيناً، وينبغي على مَن يُريد أن يُنسبَ إليها يوم القيامة ويكون آمناً مستوراً أن لا يكون لها شيناً!

هل ترضى عمَّن لا ينطق لسانه إلا بالكذب والقبيح والفضول؟!

هل يحبِّبُ الفاطميُّ فاطمة إلى الناس أم يبغِّضهم بها؟! هل يجرُّ إليها وإلى شيعتها كلَّ مودّة ويدفع عنها وعنهم كلَّ قبيحٍ أم يخالف ذلك؟!

ألا ينبغي للموالي لها أن يقفَ وقفةً صادقةً بين يدي ربِّه يُصلحُ بها أموره كي يثبت على ولايتها؟!

ألا يخشى العاصي من أن يودي به عصيانه إلى الانحراف عن مُشايعتها ومُبايعتها فيكون مستودَعَ الإيمان؟!

ليس لأعدائها وأعداء وُلدها وأعداء شيعتها مِن خلاقٍ ولا نصيبٍ يوم القيامة، فإنَّهُم كانوا بأعظم آيات الله من الكافرين.

لكنَّ مَن آمن بأعظم آيات الله: بمحمدٍ وعليٍّ وفاطمة، وجبَ عليه أن يمتثل أمرَهم وأمر بارئهم ويطيعه، فينتهي عمّا نهى الله، ليكون يوم القيامة من الفاطميين الذين يسكنون دوراً بيضاء أعدَّها لهم ربُّهم، بجوار فاطمة وأبيها، وبعلها وبنيها عليهم السلام.

قال عليٌّ عليه السلام في نهجه: أَلَا وَإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ وَغَداً السِّبَاقَ!

وَالسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ، وَالْغَايَةُ النَّارُ، أَ فَلَا تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ؟! أَ لَا عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِه؟! (نهج البلاغة ص71).

‏ها هُمُ الفاطميون اليوم سبّاقون في العَودِ إلى الله، والتوبة إليه، واتِّباع أوليائه.

هُمُ الصادقون في قولهم، المخلصون في عَمَلِهم، المحسنون إلى إخوانهم.

هم أهل الشفقة والمحبة والمودة، يرحمون عباد الله فيرحمهم الله برحمته.

جعلنا الله منهم، وثبتنا على ولاية فاطمة وأبيها، وبعلها وبنيها، وعجَّلَ فرج المنتقم لها.

والحمد لله رب العالمين.

الخميس الرابع عشر من ربيع الثاني 1444 هـ، الموافق 10 – 11 – 2022م

بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي