مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
التكرار اللفظي في خطاب الزهراء(ع)بقلم الاستاذ عبدالحسن علي حبيب شبيب الناصر
+ = -

       المقدمة

  الحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم والثناء بما قدَّم والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطاهرين.

     أما بعد….

      مثَّلت السيدةُ الزهراءُ (ع) الأنموذجَ الأكمل الذي صاغتْهُ الرسالةُ المحمَّديّةُ منهجاً وسلوكاً ومنطقاً, فقد امتازَ خطابُها (ع) بعمقِ المعاني, ودقّةِ البيان, وفصاحةِ الألفاظ, وقوَّةِ التراكيب, وجمالِ الأسلوب, وحُسنِ الأداء, , مفصِحة عن بلاغةِ أبيها النبي (ص) وفصاحتِهِ, ومنطقِ عليٍّ (ع) وخطابه, حتى عُدَّتْ خطبتُها الفدكية نهج البلاغة الصغير؛ فهي تُلخِّصُ نهجَ البلاغةِ ومعارفَه كما تُلخِّصُ الفاتحةُ القرآنَ الكريم, فيقفُ البُلغاءُ والفصحاءُ بإجلالٍ وإعظامٍ أمامَ فصاحتِها, وجوهر منطقِها.  ومن الظواهر اللافتة في خطابها (ع) ظاهرة التكرار, التي تعدُّ أسلوباً من أساليب الفصاحة في اللغة العربية, وابداعاً تصويرياً أخَّاذ, يأسر الألباب ويشدُّ الانتباه.

      والتكرار في اللغة على ضربين: احدهما مذموم, وهو ما يمكن الاستغناء عنه من غير إضافة معنى جديد على الأول, وهو يعدُّ عبثاً ولهواً وضرباً من التزويق الفني الذي لا طائل فيه, ويورث الملل والسأم. والثاني: وهو ما أضاف معنى جديداً مضافاً الى الأول من بيان أو تأكيد أو غير ذلك.   فالتكرار قد يُستحسن وقد يُستقبَحُ, فلا يعدُّ جمالاً بحدِّ ذاته إلا أن يجيءَ في مكانه من الخطاب.

      ولا يوجد في خطاب السيدة الزهراء (ع) ما يُملُّ أو يُسأمُ؛ بل تميَّزَ التكرار بجانبه البلاغي والجمالي في جميع مفاصل خطابها, وهو ما سنحاول الوقوف عليه مليَّاً في هذه الدراسة.   على هذا فقد قُسِّمَ البحث على مبحثين: أشرنا في الأول الى مفهوم التكرار وجماليته في اللغة بوصفه ظاهرة بلاغية وجمالية. أما المبحث الثاني فذكرنا أهم أنماط

التكرار اللفظي في خطابها (ع). وأنتهى البحث بخاتمة ضمَّت أهم ما توصَّل إليه البحث من نتائج.

                                         والحمد لله أولاً وآخراً والصلاة والسلام على رسوله وآله أبداً

                                                  المبحث الأول

    أولاً: مفهوم التكرار

      التكرار لغة مأخوذ من ” كرَّر الشيءَ وكَركَرَه: إذا أعادهُ مرَّة بعد أُخرى … ويُقال: كرَّرتُ عليه الحديثَ وكَرْكَرْتُهُ إذا رَدَّدْتَه عليه… والكرُّ: الرجوع على الشيء ومنه التكرار”(1) .

      أمّا الزبيدي (ت 816هـ) فقد أشار الى فائدة التكرار وهو التأكيد, فينقل عن السيوطي في بعض أجوبته ” إنَّ التكرار هو التجديد في اللفظ الأول ويفيد ضرباً من التأكيد…”(2) , ثُمَّ يذكر الفرق بين التكرار والتأكيد, وهو مبني على ما ذكره علماء البلاغة أنَّ ” التأكيد شرطُه الإتصال  وأن لا يزيد على ثلاثة , والتكرار يخالفه في الأمرين , ومن ثُمَّ بَنوا على ذلك أنَّ قوله تعالى ﭽ ﯝ  ﯞ  ﯟ  ﯠﭼ(3) تكرار لا تأكيد لأنَّها زادت على ثلاثة “(4) . أمّا حدُّ التكرار في الاصطلاح فنلحظ فيه تقارباً كبيراً في تعريفات النقاد والبلاغيين والأدباء  له ؛ ويرجع ذلك فيما يبدو الى ثبات هذا المصطلح واستقراره لديهم .  فيشير ابن الاثير (ت630هـ) الى حدِّ التكرار وهو ” دلالة اللفظ على المعنى    مردداً “(5) . امَّا تقي الدين الحموي (ت 837هـ) فيذهب الى أنَّ التكرار ” هو ان يكرر المتكلم اللفظة الواحدة والمعنى “(6)   عند الموازنة بين التعريفين نجد أنَّ الاول يذهب الى أنَّ تكرار اللفظ يحيل على المعنى نفسه طبقاً لقوله ( المعنى مردَّداً ) , والغاية من ذلك الترديد هي لتأكيد المعنى وتقويته وتثبيته في نفس  المتلقي .   أمّا الثاني فنراه يبتعدُ في فهمه للتكرار الى أكثر من ذلك فيذهب _ بحسب ما نفهمه من تعريفه _  الى أنَّ اللفظة المكررة تُحدِثُ معنى آخر جديداً هو غير المعنى الاول المفهوم من اللفظة الأولى , فإنَّ إعادة الألفاظ على وجوه مختلفة من صِيَغٍ وهيئات متنوعة  هو لإستيفاء المعاني المتكثرة فإنَّ مداها أوسع وأرحب(7) . فيُعدُّ التكرار نسقاً تعبيرياً مهماً في النص الأدبي يَشكُل, ويجذب المتلقي والقارئ ويجعله يرتاد مغامرة الكشف عن الدلالات.

ثانياً: التكرار ظاهرة جمالية وبلاغية

      لقد أشار البلاغيون القدماء لأهمية هذا الفن ودوره في وحدة أجزاء الكلام وتجلية المعنى وبلورته , إلا أنَّهم لم يتوسعوا فيه ؛ ويبدو أنَّ مرجع ذلك يعود الى طبيعة عصرهم وقتئذٍ الذي اعتبر هذه الظاهرة أسلوباً ثانوياً(8).

      فلم يفردوا لها أبواباً أو مباحث مستقلة(9) , فمنتهى ما نجد حوله أنَّ أبا الهلال العسكري(ت395هـ ) يتحدث عنه حديثاً عابراً في ( كتاب الصناعتين )(10) وكذلك الباقلاني (ت403هـ) فغاية ما يذكره أنّه من أنواع البديع الواردة عن العرب ليذكر مثالين من الشعر العربي يتبعها بمثالين من القرآن الكريم من غير تعليق عليها(11) , وكذا الحال مع ابن رشيق (ت456هـ) في( العمدة )(12) .

      أمَّا علماء النقد والبلاغة الآخرون فقد اعتبروه ثانوياً من فروع علم البديع, ولا يأتون على ذكره إلا قليلاً , ولم يصدر عنهم ذلك عن إهمال مقصود, وإنما فرضته عليهم الظروف والقوانين الادبية لذلك العصر .

      أما البلاغيون والنقاد في العصر الحديث فقد عَنوا به عناية كبيرة في استجلاء جمالية النص الادبي ودوره في التكثيف الدلالي للنص .

      إنَّ أهمية التكرار تكمن في أنَّه أحد عناصر تعلم السلوك طِبقاً لما قرره علم النفس(13) .

وبما أنَّ الغرض الأساس من التكرار هو تقوية الإنشاء, التي يسمِّيها عبدالله الطّيب بـ(الخطابة), فقد قُسِّمَ التكرار على أنواع ثلاثة:(14)

1-         التكرار المراد به تقوية النغم. 2- التكرار المراد به تقوية المعاني الصورية.

3-         التكرار المراد به تقوية المعاني التفصيلية.

      إنَّ التكرار يخلق انسجاماً وإيقاعاً في بنية النص الأدبي له أثر كبير في تفاعل القارئ ولفت ذهنه الى المعنى المنطوي في الخطاب ؛ لما يمتلكه من تنغيمٍ مزدوجٍ داخلي وخارجي . وإذا كان للصوت شعرية فإنَّ التكرار هو من أبرز الظواهر الخالقة له والمُجَسِّدة لتلك التقنية ونظراً لما يوحيه من أهمية المكرر وفاعليته الإيحائية(15) . يؤدي التكرار الى عملية تكثيف على المستويين الصوتي والدلالي , أي أنَّه عملية صوتية دلالية , ولقد استعملت الزهراء (ع) في خطابها التكرار لزيادة النغم الصوتي وتقوية الجرس الإيقاعي , فضلاً عن الجانب الدلالي في تقوية المعنى وتأكيد الفكرة(16) الذي حرصت الزهراء على ايصاله بأحسن ما يكون واوضحه وأجمله .

 

                                                 المبحث الثاني

أنماط التكرار اللفظي

 اتخذ التكرار اللفظي في خطاب السيدة الزهراء (ع) أشكالاً ومستويات متعدِّدة هي:

اولاً: التكرار على مستوى الحرف

      لقد تميزت اللغة العربية بأنَّها ” أكثر اللغات انسجاماً مع التعبير الفني وإثارةً للأحاسيس الفنية والإنسانية , وتلاؤماً مع المعايير الجمالية , ويظهر ذلك في تركيب حروفها ومفرداتها وعباراتها , فهي لغة التصوير الفني “(17) .

      وإنَّ تكرار الحرف في النص الفني واحدٌ من أهم مزايا ذلك الإنسجام ؛ فإنَّ عودة النقر موسيقياً على الوتر تُحدِثُ تجاوباً مع سابقتها(18) لتشكل قطعة موسيقية متكاملة يستلذ بها السمع وتطرب لها الأذن, وتتآلف معها الروح , وإنَّ عودة الحرف المكرر في اللفظة او النص يحَقِّق تماماً ما تحقِّقُه النقرة, فيُكسِب الأذن اُنساً والنص جمالاً .

      فمن ذلك ما ورد عن الزهراء (ع) في خطابها في مجلس أبي بكر وهي تَعْرُضُ الى تعريف القرآن الكريم وما حواه من سُبُلٍ تؤدي الى النجاة , وتأمر القوم بالرجوع اليه حينما خلَّفوه وراء ظهورهم تقول(ع): ” كتابُ اللهِ الناطقُ, والقرآنُ الصادقُ, والنورُ الساطعُ, والضياءُ اللامعُ,بينةً بصائرُهُ, منكشفةً سرائره، منجليةً ظواهره، مغتَبِطَةً به أشياعُه، قائداً إلى الرضوان اتّباعه ، مؤدّ إلى النّجاة استماعُه ، بِه تُنال حججُ اللهِ المُنَوَّرَة ، وعزائِمُهُ المُفَسَّرَةُ، ومحارِمُه المحذّرة ، وبيّناتُه الجالية ، وبراهينُه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورُخَصُه الموهوبة ، وشرائعهُ المكتوبة “(19) .

      لقد وردت في هذا النص حروف متكررة سجَّلتْ تناغماً وانسجاماً صوتياً مما أثار جواً إيقاعياً بارزاً , ويمكن حصر عدد مرات تكرار بعض الحروف في هذا المقطع المجتزأ التي سجلت حضوراً واضحاً في هذا الجدول:

ت

الحرف

عدد مرات التكرار

المواضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع

1

الميم

ثماني عشرة

اللامع, منكشفة, منجلية, مغتبط, مؤدٍ, استماعه, المنورة, عزائمه, المفسرة, محارمه, المحذرة, المندوبة, الموهوبة, المكتوبة, اليكم, عليكم, قدَّمه .

2

النون

ثلاث عشرة

الناطق, القرآن, النور, بينة, منكشفة, الرضوان, المنورة, النجاة, تنال, بيناته, براهينه, المندوبة, منجلية .

3

الراء

اربع عشرة

القرآن, النور, بصائره, سرائره, ظواهره, الرضوان, المنورة, المفسرة, محارمه, براهينه, رخصه, شرائعه .

4

الباء

ثلاث عشرة

كتاب, بينة, بصائره, مغتبطة, به, اتباعه, ربه, بيناته, براهينه, المندوبة, الموهوبة, المكتوبة, بقية .

 

فمن ذلك ما ورد عن الزهراء (ع) في خطابها في مجلس أبي بكر وهي تَعْرُضُ الى تعريف القرآن الكريم وما حواه من سُبُلٍ تؤدي الى النجاة , وتأمر القوم بالرجوع اليه حينما خلَّفوه وراء ظهورهم تقول(ع): ” كتابُ اللهِ الناطقُ, والقرآنُ الصادقُ, والنورُ الساطعُ, والضياءُ اللامعُ,بينةً بصائرُهُ, منكشفةً سرائره، منجليةً ظواهره، مغتَبِطَةً به أشياعُه، قائداً إلى الرضوان اتّباعه ، مؤدّ إلى النّجاة استماعُه ، بِه تُنال حججُ اللهِ المُنَوَّرَة ، وعزائِمُهُ المُفَسَّرَةُ، ومحارِمُه المحذّرة ، وبيّناتُه الجالية ، وبراهينُه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورُخَصُه الموهوبة ، وشرائعهُ المكتوبة “(19) .  لقد وردت في هذا النص حروف متكررة سجَّلتْ تناغماً وانسجاماً صوتياً مما أثار جواً إيقاعياً بارزاً , ويمكن حصر عدد مرات تكرار بعض الحروف في هذا المقطع المجتزأ التي سجلت حضوراً واضحاً في هذا الجدول:

 نستكشف من هذا النص والجدول قيمتين:

  • القيمة الموسيقية: إذ وردت أصوات متكررة أثارت في النص الحس الصوتي جسَّدَته أصوات الغنة ( الميم والنون والتنوين ) التي وردت أكثر من (ثلاثين) مرة في هذا النص , وهي _ أي الغنة _ ” نغمٌ شجيٌ تعشَقُه الأذن وتَلَذُه النفس ؛ ولذلك يكثر دخوله في تركيب مفردات اللغة تطريباً وتشجيةً “(20) , مما يثير رغبة المتلقي في التواصل ومتابعة المعنى مع الإلتذاذ السمعي الذي يشعر به . فضلاً عن ذلك فإنَّ تكرار ( الأصوات الذلقية ) التي تتميز بخفتها وسهولة النطق بها(21) بشكل كبير أضاف نوعاً من التناغم والانسجام بين المتكلم والمتلقي .

  • القيمة الدلالية: لقد أشارت الزهراء (ع) في خطابها الى تعريف القرآن بصورة تمثيلية بعيداً عن الاستعارة والتشبيه , فبيَّنتْ الكثير من صفاته كونه كتاباً ناطقاً وصادقاً وساطعاً ولامعاً ومنكشفاً….الخ . فكل هذه الصفات عبارة عن تعريفات لحقيقة القرآن؛ لذا تحتَّم أنْ تكونَ الصور فيها تمثيلية ليتحقق الانسجام بين الموضوع وطبيعة الصورة الفنية(22) .

      والشيء اللافت للنظر في هذا النص أنَّ الزهراء (ع) قد ركَّزت في خطابها حول تعريف القرآن على جانب السطوع والظهور والانكشاف دون غيره من جوانب القرآن الكريم ومزاياه ؛ ويبدو أنَّ مرد ذلك هو لإحداث نوع من الانسجام والتجانس في إلقاء الحجة على القوم الذين انقلبوا على الخلافة الحقَّة الظاهرة والساطعة ظهور القرآن الكريم وسطوعه .

      ونجد خطابها (ع) مشحوناً بالمؤثرات الصوتية الدلالية بما يناسب الموضوع , فنلحظ السكينة واللغة الشاعرة والنبرة الهادئة تطغى على جوِّ النص , فالغنة وما تحمله من لذة في السمع , والاصوات الذلقية وسهولتها في النطق , قد ادى الى خلق نوع من التوازن والتناغم ولفت نظر المتلقي الى المدلول عن طريق الإيقاع الصوتي مما أدى الى تعزيز ظاهرة السطوع والوضوح المتمثلة في القرآن الكريم .

عزز هذا الإيقاع وشِدَّة في التأكيد على الموضوع ,الإكثار من أصوات ( الكاف والقاف والتاء )   الانفجارية الشديدة(23) .

      نلاحظ كذلك جمالية تكرار الحرف صوتياً ودلالياً في خطاب الزهراء (ع) في دعائها عقيب صلاة المغرب وهي تدعو على أعدائها ” اللهمَّ وأعدَائي ومن كادَني بسوءٍ إنْ اتوا برَّاً فجَبِّنْ  شجيعَهم ,  فُضَّ جَمعَهم, كلِّلْ سِلاحَهم, عَرقِبْ دَوابَهم, سَلِّطْ عليهم العَواصِفَ والقواصفَ أبداً حتى تصليَهم النارَ , أنزلهم من صَياصِيهم, أمكِنَّا من نَواصِيهم, آمِين رب العالمين”(24)  .

نلاحظ تكرار صوت (الصاد) ست مرات في هذا المقطع من الدعاء , الذي هو

 ” صوت لثوي احتكاكي مهموس مفخم “(25) , وهو من الحروف المشهورة عند القراء والمعروفة عندهم بأصوات الصفير(26) وذلك ” لانَّ مجرى هذه الاصوات يضيق جداً عند مخرجها, فتحدث عند النطق بها صفيراً عالياً “(27) .

        أمَّا حرف الصاد فعند النطق به ” يتخذ وضعاً… مقعراً منطبقاً على الحنك الاعلى مع تصعيد أقصى اللسان وطرفه نحو الحنك “(28) . لذا عُدَّ من الأصوات المطبقة التي تحتاج الى جهد صوتي أكثر من غيرها(29) ,وشدَّة معاناة في نطقها ليتناسب ذلك, والخطر الذي يهدده هؤلاء الاعداء المحدقين بالإسلام وأهله وشدة معاناة الأمة منهم , فنرى الألم والحزن ينساب مع صوت الصفير الخارج من أعماق نفس المتكلم؛ ليدل على تأزم حالته النفسية وعمق تأثره بالحدث .

        فالصياح الذي يُحدِثُه صوت (الصاد) يدل على قوة هذا الصوت في السمع ووقعه في الأذن , ومما زاده قوةً وشِدَّةً مجيؤه في سياق أصوات شديدة كـ( العين والقاف والتاء والنون ) في ( العواصف, والقواصف, وتصليهم, ونواصيهم ) , فأضافت نوعاً من الشِدَّة والحزم الى صوت (الصاد) المتميز بالمعالجة الشديدة(30) , فسمة هذا الصوت قد تأثرت بالأصوات المجاورة له(31) , فالقوة والشدة بارزتان في لفظتي ( العواصف والقواصف ) فهي تقرع الأذن, وتصكُّ الأسماع من خلال صوتي ( العين والقاف ) , فتعكس لنا صورة شقّ الشيء وقلعه من موضعه دفعة واحدة مفاجأة(32) , فضلاً عن ذلك فإنَّ صياغة المفردات ( جبِّنْ, وفضَّ, وكلِّل, وسلِّط ) على مسار لفظي مخصوص من خلال تضعيف عين الفعل قد منح النص ذلك الصخب الموسيقي المرتفع الذي يتناسب والحالة النفسية للمتكلم , إذ التكرار يسهم في الكشف عن بعض الدلالات النفسية والموضوعية والفنية للنص وصاحبه .

        ومن مواطن تكرار الحرف في خطاب الزهراء (ع) تكرار الحرف* (قد) في قولها: ” ألا وقد أرى أن قد أخلدتم الى الخفض, وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض …”(33) . فتكرار الحرف (قد) قد أضاف جرساً إيقاعياً عالياً الى النص ؛ فحرف ( القاف ) وهو صوت لهوي انفجاري شديد وحرف ( الدال ) وهو صوت أسناني لثوي انفجاري مجهور(34) وصفته القلقلة(35) التي تعني رفع الصوت وشدة الصياح(36) المتكون من شدَّة الضغط عند الوقف على الصوت , فلا يمكن الوقف عليه إلا بإظهار نبرة صوتية قوية(37) .

        نخلص من ذلك الى أنَّ شدَّة الصوت في (قد) وتكرار هذا الحرف يتناسب مع شِدَّة موقف الزهراء (ع) من القوم وحنقها الشديد عليهم , هذا من الجانب الصوتي الموسيقي…

        أمّا من الجانب الدلالي فإنَّ الحرف (قد) _ كما هو المشهور عند النحويين(38) _ يفيد التحقيق في احد معانيه إذا دخل على الفعل الماضي . وفيه دلالة أنَّ الزهراء (ع) كانت على علم ٍ ويقينٍ بإصرار القوم على غصبها إرثها من أبيها النبي (ص) ومنعها فدكاً وإبعاد ( من هو احق بالبسط والقبض ) وتقصد بذلك بعلها أمير المؤمنين علي (ع), والذي يؤكِّد هذا العلم اليقيني هو قسمها كما ورد في بعض النسخ(39).

فهي(ع) على دراية بعدم استجابة القوم لمطلبها, وما خطابها إلا من باب ” تقدمة الحجة “(40).

         وقد مهَّدَت الزهراء (ع) لهذا المفهوم, وهيأت النفوس لاستقباله من خلال أداة الاستفتاح ( ألا ) فأرادت بذلك أن تلفت أذهان السامعين الى أهمية ما سيأتي بعدها .

ثانياً: التكرار على مستوى المقطع الصوتي

      اتخذ تكرار المقاطع الصوتية في خطاب الزهراء (ع) بعدين:

  • البعد الجمالي الصوتي: تمثل بتشكيل أنغام موسيقية إيقاعية تخلق جواً نغمياً ممتعاً يشعر به المتلقي .