زهد الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء –عليها السلام-:
سبق أن قلنا أنّ الصدّيقة الطاهرة لم تكن تبتغي في خطبتها هذه عرَضَ الحياة الدنيا الزائل،وقد أقرها الله على هذا الأمر في القرآن الكريم،وسنختار موقفين لها يشترك معها فيهما أهل البيت –عليهم السلام-:
الأول:جاء في سورة الإنسان،فثمة إجماع عند عدد من علماء التفسيرعلى أنّ ثماني عشرة آية من آيات سورةالإنسان،أوالدهر أوالأبرار،أوالمسماة بمفتتحها، بداءةً من قوله تعالى:(( إنّ الأبرَارَ يَشرَبُونَ))[الأنسان/5]إلى قوله:((وَكانَ سَعيَكم مَشكوراً )) [الإنسان/22]. نزلت في أهـل بيت رسول الله-صلّى الله عليه وآله وسلم-:علي وفاطمة والحسن والحسين وجارية لهم،تسمى فضة .فقد جاء في تفسير الكشّاف عن حَبرالأمة عبدالله بن عباس(رض):((إنّ الحســن والحسين مَرِضّا،فعادهما رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-في ناس معه فقالوا:ياأبا الحسن لونذرت على وِلدك، فنذرعلي،وفاطمة، وفضة-جارية لهما- إنْ برآ مما بهما أنْ يصوموا ثلاثة أيام،فشفيا ومامعهم شيء، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير،فطحنت فاطمة صاعاً،واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم،ليفطروا فوقف عليهم سائل،فقال:السلام عليكم أهل بيت محمّد،مسكين من مساكين المسلمين. أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثرواه وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء،وأصبحوا صياماً،فلـمّا أمسوا،ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم، فآثروه، ووقف عليهم أسيرفي الثالثة،ففعلوامثل ذلك.فلمّا أصبحوا،أخذ عليّ-رضي الله عنه– بيد الحسن والحسين،وأقبلوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم– فلمّا أبصرهم، وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع،قال:ماأشـدّ مايسوءني ما أرى بكم! وقام فانطلق معهم،فرأى فاطمة في محرابها،قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها،فساءَهُ ذلك،فنزلَ جبريل،وقال:خذها يامحمّد! هنّـاك الله فـي أهـل ِبيتك، فأقـرأهُ السـورة))(1).
إنّ سبب نزول الآيات المباركة في حقِّ أهـل بيت رسول الله:علي وفاطمة والحسن والحسين- عليهم السلام– يشيرإلى مقدار الإيثار الذي،يتصفون به،وهذا سبيل ارتضوه في الحياة الدنيا،وهوسبيل العارفين بالله.
الموقف الآخر:عندما قال الحقّ ُفيهم:(( وَيُؤثِرونَ عَلى أنفـُسِهِم وَلوكانَ بِهِم خَصَاصَة ُ ُ وَمَن يُوقَ شُـــحَّ نَفسِــــه ِفَأولِئــكَ هُمُ المُفلـِحونَ ))[الحشر/ 9]. وقد ورد في سبب نزول آية الإيثارهذه،أنّ السيدة فاطمة الزهراء-عليهاالسلام– قالت لعلي-عليه السلام– إذهب إلى أبي فابغنا منه شيئاً.
فقال:نعم، فأتى رسول الله– صلى الله عليه وآله وسلم-فأعطاه دينارا،وقال:ياعلي اذهب فابتع لأهلك طعاما.
فخرج من عنده، فلقيه المقداد بن الأسود– رضي الله عنه-فأعطاه الدينار، بعد أن ذكرَ له حاجته،وانطلق إلى المسجد،ولقي رسول الله– صلى الله عليه وآله وسلم-فقال له: ياعلي،ماصنعتَ؟ فقال:يا رسول الله ،خرجتُ من عندك فلقيني المقدادبن الأسود، فذكرلي ماشاء الله أن يذكرفأعطيته الدينار.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم– أما أنّ جبرائيل-عليه السلام– قد أنبأني بذلك،وقد أنزل الله فيك كتاباً(2)((وَيُؤثِرونَ عَلى أنفـُسِهِم وَلوكانَ بِهِم خَصَاصَة ُ ُ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِه فأولئكَ هُمُ المُفلـِحونَ )) [الحشر/ 9].
يزاد على ذلك كله،فإنّ الحقّ-سبحانه وتعالى- يقدم رسالة كونية ، عندما تُستَهلُ سورة الإنسان بقوله تعالى:((هَل أتى عَلى الإنسَان ِ حينُ ُمِنَ الدَهر ِ لم يَكن شَيئاً مَذكُوراً)) [الإنسان/1]. فتشيرإلى مآله،وتقدّم-أيضا-أنموذجاً إنسانياً،لبيوتات الأنبياء- عليهم السلام– تبتغي في مجملها، الإشارة إلى أنّ نهج أهل بيت محمّد – صلى الله عليه وآله وسلم- خاتم الرسل والأنبياء، منارللراغبين إلى ربِّهم،يهتدون به أنّى شاؤا،وبيتهم ليس ككلِّ بيت،فلاعجب أن آثروا المسكين،واليتيم،والأسيرعلى أنفـُسِهم ،وأطعموهم طعامهم وأوفوا بالنذر،وصبروا،وخشيتهم لله -سبحانه وتعالى- وهذا مابدا في آيات سورة الإنسان،التي اتجهت إلى ذكراتجاهين:اتجاه المؤمنين الرسول الكريم وأهل بيته- عليهم السلام– ومن اتبعهم،وذكرعطائهم،وهوالغالب على مجمل الآيات المباركة واتجاه المعاندين الكافرين،فقال الحقّ ُفي الإتجاهين في مستهل السورة:((إنّا هَدَينَاهُ السَبيلَ إمّا شاكِراًوإمّا كَفـُوراً))[الإنسان/3].وكان أهل البيت-عليهم السلام- من الشاكرين،وشكر الحق عملهم في الحياة الدنيا،فقال في شأنهم:(( وَكانَ سَعيُكم مَشكُورً ا ))[الإنسان/3]. وعلى هذا كانوا من الداخلين في فيوضاته الله ورحمة،ويكون ختام السورة المباركة بقوله تعالى:((يُدخِلُ مَن يَشاءُ فِي رَحمَتِهِ والظالِمِين أعَدَّ لَهُم عَذاباً ألِيما))[الإنسان/31].متسقاً مع التفاصيل التي اتجهت السورة إليها،وعلى نحو خاص،عمل أهل البيت-عليهم السلام- والنعيم والملك الكبير الذي أسبغه الخالق العظيم ـسبحانه وتعالى- عليهم .
وقد أشارالإمام فخرالدين محمّد بن عمرالرازي (ت606هـ )في كتابه :عجائب القرآن إلى مكانة أهل البيت- عليهم السلام– عند الله-سبحانه وتعالى- عندما جعلهم الحقّ مساوين للنبي –صلى الله عليه وآله وسلم- في عددمن الأمور،منها:
الأول:في المحبّة في قوله تعالى:((فاتَبِعوني يُحبِبكم اللهُ))[آل عمران/31].وقال تعالى في حقّ أهل بيت النبيّ:((قـُل لاأسألكم عَليهِ أجراً إلاّ المَوَ دَة فِي القــُربى ))[الشورى/ 23].
فعن ابن عباس- رضي الله عنه– أنّه لمّا نزلت هذه الآية ((قالوا:يارسول الله مَن هؤلاء الذين أمرنا الله بمودّتهم ؟ قال علي وفاطمة ووِلدهما.))( 3)
والثاني:في تحريم الصدقة عندما قال الرسول الكريم–صلى الله عليه وآله وسلم-:(( حُرِمت الصدقة ُعَليَّ وعلى آل بيتي )).
والثالث:في الطُهرفي قوله تعالى:(( إنما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكمُ الرِجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِرُكم تَطهِيراً))[الأحزاب/ 33].
والرابع:في السلام في الصلاة،يقال:((السلام عليك أيُّها النبيُّ))وقال في أهل بيته:((سلامُ ُعلى إل ياسين))[الصافات/ 130].وقد((قال ابن عباس:آل ياسين آل مُحمّد –صلى الله عليه وآله وسلم–، وياسين من أسمائهِ))(4).
والخامس:في الصلاةعلى الرسول وآله، كما في التشهد(5)،وهذا الأمرلم يشارك الرسول الكريم فيه أحد إلاّ أهل بيته.
يُزاد على ذلك كله،فإنّ القرآن الكريم المعجزة الكبرى للرسول– صلى الله عليه وآله وسلم- والمعجزة دليل تصديقه في مايدعوإليه،وكان هذا السبيل شأن أهل البيت-عليهم السلام-في آية المباهلة في قول الحقّ -تبارك وتعالى -:((فمَن حَاجّك فيه ِمن بعَدِ مَا جَاءَكَ مِن َ العِلم فُقل تَعالَوا نَدعُ أبنَاءَنا وَأبنَاءَكُم وَنسِاءَنا ونسِاءَكُم وَأنفُسَنا وَأنفُسَكُم ثمَّ ّنبتَهِل فَنجعَل لَعنةَ اللّه علَى الكَاذبِين))[آل عمران/ 61 ] .
فاشتركوا مع كتاب الله في هذا الأمر من دون الناس،عندما جعلهم الله-عزّوجلّ- دليل تصديق الرسول في مايدعو إليه،من أجل ذلك،لاريب في تجلي عطاءُ الخالق عليهم في سورة الإنسان في أكثرمن سبيل. هؤلاء هم أهل البيت –عليهم السلام- الذين يقول فيهم أميرالمؤمنين-عليه السلام-: ((لايقاسُ بآل محمّد– صلى الله عليه وآله –أحد من هذه الأمة،ولايُسوّى بهم مَن جَرت نعمتهم عليه أبدا:هم أساس الدين،وعماد اليقين.))(6)ولاريب أنْ نرى تلك الآيات المباركة،وغيرها تنزل فيهم،ويُسبغ الحقّ عليهم آلآءهُ ظاهره،وباطنه، فإنّهم عِـدلُ القرآن، وأهله، وترجمانه.